الاقتصاد اللبناني: لماذا يعجز عن الاقلاع رغم بوادر الانفراج؟

الاقتصاد اللبناني: لماذا يعجز عن الاقلاع رغم بوادر الانفراج؟ -- Jul 10 , 2025 204

على الرغم من ظهور بعض الاشارات الإيجابية في السوق المالية اللبنانية، مثل الاستقرار النسبي في سعر صرف الليرة اللبنانية، وارتفاع احتياطات الذهب والعملات الأجنبية، يبقى الاقتصاد اللبناني غارقاً في حالة من الجمود البنيوي العميق. ويثير هذا التناقض تساؤلاً ملحاً يفرض نفسه على كل مراقب ومواطن: لماذا لم تترجم هذه المؤشرات الايجابية إلى نمو اقتصادي حقيقي ملموس، أو على الأقل، إلى استعادة الثقة لدى المواطنين والمستثمرين؟

في الواقع، يكمن الجواب في التناقض العميق بين الحراك الظاهري في بعض القطاعات، والانهيار المستمر في البنية المؤسسية، وغياب رؤية اقتصادية متماسكة تؤسس لنمو مستدام وإنتاجي. فلبنان، حتى هذه اللحظة، لا يزال يدور في حلقة مفرغة من الاجراءات المتفرقة التي تُنفّذ بمعزل عن سياق اقتصادي شامل، وتُصاغ غالباً تحت ضغط الجهات الدولية، لا انطلاقاً من حاجات الاقتصاد الحقيقي. فغياب الثقة، وتراجع فعالية المؤسسات العامة، واستمرار الانقسام السياسي، كلها عوامل تُفرغ أي إنجاز جزئي من مضمونه وتحول دون تحوّله إلى مسار مستدام للإصلاح.

إصلاحات شكلية وقطاعات خارج الحسابات

بعد أربع سنوات من الانهيار المالي والنقدي، لا تزال الخطط الاقتصادية تُدار بعقلية التجزئة والردود الظرفية، بدلاً من أن تُبنى على رؤية استراتيجية متكاملة. فالاصلاحات المصرفية، على سبيل المثال، على الرغم من كونها منطلقاً أساسياً لأي تعافٍ اقتصادي، لا تزال تُطرح ببطء وبمعزل عن خطة نهوض شاملة تعيد هيكلة القطاع المالي وتعيد الثقة بالنظام المصرفي وتضع خطة طريق لكيفية استرداد الودائع. أما السياسات الضريبية، فغالباً ما تُقرّ ضمن منطق العشوائية، من دون أن تُربط بحوافز إنتاجية أو تخطيط ضريبي يدعم النمو ويحفّز الاستثمار في القطاعات الحيوية.

في المقابل، تبقى القطاعات الواعدة – كالزراعة والصناعة والتكنولوجيا والسياحة البيئية والاقتصاد الأخضر – خارج دائرة الاهتمام، محرومة من التمويل والرؤية والدعم السياسي الحقيقي، على الرغم مما تختزنه من فرص كبيرة لتعزيز النمو المستدام وخلق فرص العمل. وغالباً ما يتم التعامل معها كملحقات ثانوية، لا كمحرّكات للنهوض الاقتصادي.

احتياطات بلا استثمار.. وذهب بلا عائد

تشير الأرقام إلى أن احتياطيات مصرف لبنان، التي تبلغ نحو 43 مليار دولار، هي في معظمها نتيجة ارتفاع أسعار الذهب عالمياً، كمؤشر على المرونة المالية أو “احتياطي استراتيجي” يمكن البناء عليه. ويبدو الذهب اليوم كآخر ما تبقى من “رصيد الثقة” للدولة اللبنانية، إذ تمثل قيمته نحو 100 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي، وهي من بين النسب الأعلى على مستوى العالم. غير أن هذا الرصيد الثمين، بدل أن يكون رافعة للنهوض، بات موضوعاً للجدل السياسي والانقسام، بحيث تختلف القوى حول إمكان استخدام جزء منه – سواء لسد الفجوة المالية الهائلة، أو كضمان لتأمين شروط التمويل من صندوق النقد الدولي. ويظل هذا النقاش معلّقاً في الفراغ، في ظل غياب آلية مستقلة وموثوقة لاتخاذ قرارات مالية بهذا الحجم، وغياب أي توافق وطني على الأولويات الاقتصادية.

بورصة بيروت تنتعش ولكن…

شهدت بورصة بيروت انتعاشاً لافتاً في الآونة الأخيرة، إذ ارتفع مؤشرها السعري بنسبة 5.6 في المئة، وتضاعفت قيمة التداول الأسبوعية لتتجاوز 4.5 ملايين دولار، في مؤشر على عودة بعض الزخم إلى السوق المالية المحلية. كما ارتفعت أسعار اليوروبوندز اللبنانية بنسبة 14 في المئة خلال أسبوعين فقط، مدفوعة بجملة من العوامل، أبرزها التهدئة النسبية في التوترات الاقليمية بين إيران وإسرائيل، وتزايد الآمال بإعادة إحياء المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.

إلا أن هذا الانتعاش، على أهميته، يبقى ظرفياً وهشاً، أشبه برد فعل مؤقت للأسواق على متغيرات خارجية أكثر منه تعبيراً عن تحوّل اقتصادي داخلي. فالسوق المالية، في غياب الأسس البنيوية، تبقى عرضة لتقلبات حادة واستجابة سريعة لأي صدمة سياسية أو أمنية، سواء محلية أو إقليمية.

ولهذا، فإن الحفاظ على هذا الزخم وتحويله إلى مسار مستدام يتطلب التقدّم في ثلاثة مسارات أساسية مترابطة: أولاً، تنفيذ الاصلاحات الهيكلية المطلوبة في المالية العامة والحوكمة والادارة العامة، بما يعيد الثقة بالقطاع العام ويحدّ من الهدر والفساد. ثانياً، التوصّل إلى اتفاق نهائي وفعّال مع صندوق النقد الدولي يفتح أبواب التمويل الدولي ويشكّل مرجعية لإصلاحات أعمق. وثالثاً، ضمان الاستقرار السياسي والأمني كبيئة حاضنة للنمو والاستثمار، بعيداً عن التجاذبات والانقسامات التي لطالما عطّلت أي مسار إصلاحي.

مناخ استثماري طارد.. وبيئة عالية المخاطر

أصبح لبنان، الذي كان تاريخياً مركزاً مالياً واقتصادياً في الشرق الأوسط، الآن مثالاً صارخاً على كيفية تحول البلدان من بيئة استثمارية واعدة إلى أرض طاردة للأعمال نتيجة الأزمات المالية والحروب. وعلى الرغم من كل محاولات الترويج للبنان كوجهة استثمارية واعدة، تبقى الصورة الواقعية أبعد ما تكون عن هذا الطموح. فالمشهد اللبناني، المأزوم سياسياً والمضطرب اقتصادياً، لا يوفّر الحدّ الأدنى من مقوّمات البيئة الجاذبة للاستثمار. فغياب الاستقرار السياسي، وضعف استقلالية القضاء، والتوترات الأمنية، جميعها عوامل تُقصي رأس المال المحلي والأجنبي على حدّ سواء، وتزرع الخوف والشك في نفوس المستثمرين.

القرار السياسي هو المفتاح

لا يعيش لبنان اليوم الانهيار الشامل الذي شهده عام 2020، لكنه في الوقت ذاته لا يشهد انتعاشاً حقيقياً، على الرغم من بعض المؤشرات الظرفية التي توحي بتحسنٍ خادع. فالمشهد الاقتصادي أقرب ما يكون إلى حالة “تعليق”، أو ما يمكن وصفه مجازاً بوضع في “غرفة الانتظار”؛ حيث تتراكم الآمال على اتفاق مرتقب مع صندوق النقد الدولي، أو على استثمارات أجنبية مؤجلة، أو على إصلاحات لم تُترجم، أو على ثقة ما تزال ضائعة.

تبقى الحقيقة الجوهرية أن بناء الاقتصاد لا يقوم على الانتظار، بل على اتخاذ قرار جريء يستند بالضرورة إلى قرار سياسي سيادي. لذلك، يتجاوز تعزيز سلطة الدولة في كل المجالات البعد الأمني ليصبح ركيزة اقتصادية حيوية. فوجود سلطات موازية وأدوات خارج إطار الشرعية لا يهدد الأمن الداخلي فحسب، بل يقوّض أسس السيادة الاقتصادية ويضعف الثقة مع المجتمع الدولي، ما يفرغ أي حديث عن إصلاح أو جذب استثمارات من أي محتوى فعلي. وعليه، فإن الاستقرار السياسي والأمني ليس ترفاً، بل شرط أساسي لتحقيق النهوض الاقتصادي خصوصاً وأن القرار الاقتصادي لا يمكن أن ينشأ في ظل غياب القرار السياسي.

لبنان الكبير

أقرأ أيضاَ

كركي: زيادة تعرفة TAVI إلى 700 مليون ليرة

أقرأ أيضاَ

النائب فريد البستاني بعد اجتماع لجنة الاقتصاد: مستمرون في مكافحة الفساد... وندعو لتوسيع رقابة قانون الشراء العام.