الليرة اللبنانية: ثبات حذر بإنتظار الإصلاحات -- Aug 08 , 2025 10
يعاني الاقتصاد اللبناني من أزمة حادّة تُعد الأسوأ في تاريخه، ترافقت مع تراجع قيمة الليرة اللبنانية وارتفاع معدلات التضخم والبطالة، ما أثّر بشكل مباشر على معيشة المواطنين. وقد ساهمت سنوات من الهدر والفساد وغياب الإصلاحات في تفاقم هذا الانهيار.
في المقابل، تسعى الدولة، ولو بخطى بطيئة، إلى تنفيذ بعض الإجراءات لاحتواء الانهيار المالي واستعادة الثقة بالليرة، لكن هذه المحاولات لا تزال تصطدم بعوائق سياسية وبنية اقتصادية منهكة، ما يجعل التعافي مهمة طويلة وشاقة.
ومنذ بداية الأزمة الاقتصادية في عام 2019 وتزامنها مع موجة احتجاجات شعبية، اتّجه لبنان تدريجياً نحو اعتماد الدولار في مختلف المعاملات. وقد أدّى ذلك إلى تراجع استخدام الليرة اللبنانية، وظهور ما يُعرف بـ"الدولرة"، حيث انفصلت العملة الوطنية عن الدولار في السوق الموازية ثم في المصارف، ما سرّع من وتيرة انهيار قيمتها.
في السياق، تضمن تقرير "بنك عوده" الفصلي الأخير جزءاً سلّط الضوء على واقع الليرة، حيث أشار إلى استقرار سعر الصرف على مدى 13 شهراً رغم التحديات الموجودة وفي طليعتها الحرب الإسرائيلية على لبنان، لافتاً إلى فقدان الليرة لأدوارها كأداة للتداول وأداة إدخار ووحدة محاسبة.
وجاء في التقرير: "صحيح أن الليرة اللبنانية حافظت على استقرارها بدعم تقني وبدعم من الأساسيات الاقتصادية، إلا أن العملة الوطنية لم تستعد أياً من أدوارها التي خسرتها في السابق، ما جعلها تقع تحت مسمى عملة فاقدة لأدوارها".
"ليست مطلوبة"
في حديث خاص إلى "النهار"، يؤكد الخبير الاقتصادي محمد فحيلي أن "الاقتصاد اللبناني مُدولر بدرجة عالية، باعتراف بنك عوده، ومكوّنات المجتمع الدولي، والسلطة المعنية في لبنان، وذلك من حيث تمويل فواتير الاستهلاك، والتعليم، والطبابة، والاستيراد، والتصدير، إضافة إلى الرسوم والضرائب، وباختصار، الليرة اللبنانية غير مطلوبة وغير مرغوب بها".
ويتابع: "يمكن القول إن العملة غائبة عن التداول، بسبب غياب العرض والطلب"، ويعود ذلك إلى "أداء الطبقة الحاكمة في إدارة المال العام، الذي أوصل البلاد إلى الانهيار الاقتصادي في عام 2019، وتفاقم لاحقاً حين اتخذت حكومة حسان دياب قراراً بالتوقف عن خدمة الدين".
ويضيف فحيلي أن "مصرف لبنان، والسلطة السياسية، والمصارف، جميعها شريكة في الأزمة"، لافتاً إلى أن "فقدان الثقة بالليرة والقطاع المصرفي أدّى إلى نبذٍ شبه كامل لوسائل الدفع عبر المصارف، وإلى عزوف تام عن التعامل بالليرة".
"معالجة الأسباب وليس النتائج"
تُحاول الليرة اللبنانية استعادة جزء من قدرتها وسط تقلبات السوق وضغوط الاقتصاد. وتُعوّل السلطات على الإصلاحات والاتفاقات الدولية لدعم استقرارها النقدي.
في هذا السياق، يشير الخبير الاقتصادي لـ"النهار" إلى أنّ "الليرة اللبنانية يمكن أن تستعيد مكانتها، وأن يعود القطاع المصرفي إلى الانتظام، إذا ما عُولجت الأسباب لا النتائج"، قائلاً: "يجب استعادة الثقة. فالدولة اللبنانية تتجه نحو اقتراح قوانين في محاولة صادقة لإعادة الانتظام إلى القطاع المصرفي، لكن القرار في النهاية يعود إلى المودِع".
ويوضح أنّ "مشكلة القطاع المصرفي في لبنان هي مشكلة سيولة، لا مشكلة رأس مال"، لافتاً إلى أنّ "التركيز على أن الأزمة تتعلق برأس المال هو محاولة لتضليل المواطن... ولهذا السبب لم ننجح بعد في معالجة أزمة القطاع".
"موازنة متوازنة"
تُجمِع وكالات التصنيف العالمية على وضع لبنان في فئة الدول المتعثّرة، مع تصنيفات شديدة الانخفاض تعكس العجز عن سداد الديون. ويُعد هذا التصنيف مؤشراً على فقدان الثقة بالقدرة المالية للدولة وانهيار مقومات الاستقرار الاقتصادي.
وفي حديثه لـ"النهار"، يؤكد فحيلي أن "لبنان مصنَّف كدولة متعثرة من قِبل وكالات التصنيف العالمية، ومُدرج على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي، كما يُعدّ من الدول النامية الأكثر خطورة في ما يتعلق بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وفق تصنيف الاتحاد الأوروبي. وهذه المؤشرات جميعها تنعكس سلباً على القطاع المصرفي".
ويتابع: "يُضاف إلى ذلك حجم الاقتصاد الموازي (الظل)، الذي يعتمد على الأوراق النقدية في التداول التجاري، ما يعني نبذ وسائل الدفع المتاحة عبر القطاع المصرفي. كما أن فقدان الثقة يتعمّق في ظل غياب أي اعتراف من المصارف بالأخطاء التي ارتُكبت أو تحمُّل للمسؤولية، فيما المودع وحده مَن يدفع الثمن".
ويُشدّد فحيلي على أن "الإجراءات الكفيلة بإعادة الانتظام إلى المشهد النقدي، تبدأ بانتظام المالية العامة، أي من خلال إقرار موازنة متوازنة".
إلى ذلك، يلفت الخبير الاقتصادي في حديثه إلى "النهار"، إلى أنّ "المشكلة لا تكمن في الحلول، بل في غياب الإرادة السياسية لإقرار الإصلاحات"، مضيفاً: "في أوقات كثيرة، لم يُقدِم لبنان على أي خطوة لمعالجة أزماته الاقتصادية، رغم الاتفاقيات التي وقّعها مع بعض الجهات".
ويكشف أنّه "في حال عدم إقرار الإصلاحات، ستبقى الليرة اللبنانية على حالها"، مضيفاً: "حين يكون اقتصادنا مُدَولَراً ونربط شريان الليرة بالدولار، فإننا نمنح الخزينة الأميركية قدرة إضافية للتحكم بالمشهد النقدي في الداخل... لكننا لم نصل بعد إلى هذه المرحلة".
"سعر الصرف ليس له قيمة"
يستقرّ سعر صرف الليرة اللبنانية حالياً عند نحو 89,700 ليرة للدولار في السوق الموازية. ورغم هذا الاستقرار الظاهري، يبقى مستقبل الليرة غامضاً بانتظار إصلاحات اقتصادية جدية واستعادة الثقة المالية.
في هذا الإطار، يشير فحيلي إلى أن "سعر الصرف لم يعد يعكس أي قيمة فعلية، وقد شهد سوق القطع الأجنبي في لبنان حالة من الفوضى، كونه سوقاً غير خاضع للرقابة"، مضيفاً: "العوامل الاقتصادية لم تعد هي التي تحدد سعر الصرف، إذ فقدت السلطتان النقدية والسياسية كل إمكانيات الإدارة والرقابة على المشهد النقدي".
ويشدّد على أن "سعر الصرف هو قرار سياسي"، موضحاً أنه "في حال قررت السلطة النقدية خفض سعر الصرف إلى 60 ألف ليرة للدولار، فإن الخاسر الأكبر سيكون إيرادات الدولة اللبنانية".
بالرغم من الصورة القاتمة التي ترسمها التصنيفات الدولية، وواقع الليرة اللبنانية والقطاع المصرفي، تبقى فرص النهوض ممكنة إذا ما توفرت الإرادة السياسية والرؤية الإصلاحية الجادة.
فاستعادة الثقة تبدأ بخطوات ملموسة نحو الشفافية، ومحاسبة المسؤولين، وتفعيل المؤسسات، ما قد يفتح الباب تدريجاً أمام إعادة الانتظام للنظام المالي والنقدي في لبنان.
محمد غساني- النهار