السوق السوداء للمياه في لبنان بأسعار ملتهبة ومياه ملوثة

السوق السوداء للمياه في لبنان بأسعار ملتهبة ومياه ملوثة -- Aug 20 , 2025 6

في لبنان، خزان الشرق للمياه، تحولت المياه – شريان الحياة – إلى سلعة تباع وتشترى في سوق سوداء، فمع انهيار البنى التحتية للبلاد وغياب الدولة عن مسؤولياتها، باتت الصهاريج تجوب الأحياء وتفرض أسعارا ملتهبة مقابل مياه مشبوهة لا نعرف مصدرها ولا جودتها، ليجد المواطن اللبناني نفسه عالقا في حلقة جشع وفوضى يدفع ثمنها من صحته وجيبه معا.

 

ظهرت أولى صهاريج المياه غير الرسمية أو ما يعرف بـ"السيتيرنات"، في السبعينيات تقريبا ومنذ سنوات، تحول إلى قطاع خاص لكن غير رسمي تفرضه الحاجة، في ظل غياب شبه تام لشبكات مؤسسة المياه الرسمية واهتراء شبكات الإمداد والتوزيع ، والانقطاع المزمن للمياه نتيجة الشح وجفاف الآبار بسبب انخفاض معدلات الأمطار إلى مستويات قياسية، مما دفع بالمواطن اللبناني إلى البحث عن بدائل، لكن هذا العام كان استثنائياً، إذ بدأ اللبنانيون يشاهدون قوافل الصهاريج تجوب الطرقات بكثافة منذ نيسان الماضي.



هذا القطاع، الذي يفترض أن يسد حاجة أساسية وملحة، يعمل اليوم في ظل فوضى عارمة وغياب لأي رقابة فلا تراخيص إلزامية لأصحاب الصهاريج ولا دفاتر صحية أو بيئية لمصادر المياه، ولا التزام بمعايير التعبئة أو النقل، ما يحوله إلى سوق سوداء جديدة يتحكم بها أصحاب الصهاريج الذين عمدوا إلى تأسيس شركات بيع مياه تعمل بلا رقابة أو محاسبة، وبممارسات أقرب إلى "الخوة"، والأسوأ أن معظم الصهاريج لا تنظف بشكل دوري، ما يضاعف احتمالية التلوث وانتشار الأمراض.


مصدر طبي حذر من "الاعتماد على مياه مجهولة المصدر التي قد تؤدي إلى تسممات بكتيرية وفيروسية، أبرزها الكوليرا التي عادت لتظهر في لبنان خلال السنوات الأخيرة، إضافة إلى التهابات معوية وجلدية".

غياب الرقابة على قطاع المياه ليس تفصيلا تقنيا، بل يعكس حالة الفوضى الشاملة التي تطبع إدارة الموارد الحيوية في لبنان، فوزارة الطاقة والمياه، المعنية قانونا بمراقبة المصادر، تكتفي بدور شكلي، ووزارة الصحة، المفترض أن تكون الضامن الأول لسلامة المياه الصالحة للشرب، تغيب عن الميدان إلا في حالات نادرة، أما البلديات، صاحبة السلطة المحلية في متابعة التوزيع وضبط المخالفات، فهي إما عاجزة أو متواطئة، فتتحول المسؤولية إلى كرة نار تتقاذفها المؤسسات، بينما يترك المواطن وحيدا في مواجهة مياه عشوائية قد تكون قاتلة.

ينص قانون المياه اللبناني (المرسوم التشريعي رقم 77/2018) على أن "المياه ملك عام للدولة" وعلى الدولة مسؤولية تنظيم توزيعها وضمان جودتها، لكن القانون بقي حبراً على ورق في ظل غياب تطبيق فعلي.


بين العطش والخوف من التلوث، يعيش اللبناني معضلة يومية، فالماء، الذي يفترض أن يكون حقا طبيعيا ومتاحا للجميع، تحول إلى عبء مالي وصحي ثقيل وسط أحياء تنقطع المياه فيها لأيام، وأحياناً لأسابيع، دون سابق إنذار أو توضيح، فالواقع المائي لم يعد مجرد خلل في الخدمة العامة، بل تحول إلى أزمة تمس الحياة اليومية لعشرات آلاف العائلات التي تجبرعلى شراء المياه بأسعار خيالية، وسط انهيار اقتصادي، شهادات المواطنين تروي تفاصيل المعاناة اليومية مع شح المياه تقول سهام وهي ربة منزل "نجبر على غلي المياه أو شراء قوارير إضافية للشرب، لكن لا قدرة لنا على تحمل هذه الأكلاف، أشعر أننا ندفع ثمنا مضاعفا للفوضى" مشيرة إلى أن أطفالها أصيبوا أكثر من مرة باضطرابات معوية وجلدية بسبب المياه.

 

أما علاء وهو موظف في إحدى المؤسسات الخاصة في بيروت، يؤكد أنه يضطر إلى شراء صهريجين شهريا لعائلته الصغيرة و"كل صهريج يكلفني نحو 80 دولارا يعني أكثر من ثلث راتبي يذهب على المياه، ومع ذلك لا أعرف إذا كانت صالحة للشرب"، ويشاطره في الراي زميله ماهر الذي أكد أن "أسعار الصهاريج مرشحة للارتفاع ربطا بالظروف المستجدة وبمزاجية أصحاب الصهاريج الذين يفرضون شروطهم على الزبائن، مثل ألا تقل سعة الحمولة المراد تعبئتها عن عشرة براميل، وتضاعف سعر "النقلة" فيما لو كان الخزان المراد ملؤه على السطح، والانتظار ساعات طويلة قبل قدوم الصهريج بسبب كثافة الطلب"، مضيفا "ما باليد حيلة فإما الامتثال وإلا... لا مياه!"

وفق منظمة الصحة العالمية، يحتاج الإنسان إلى ما بين 140 و150 ليتراً من المياه لجميع احتياجاته اليومية، وعليه فإن عائلة من خمسة أفراد تحتاج بالحد الأدنى إلى 700 ليتر مياه يومياً، أي نحو ثلاثة براميل ونصف برميل يومياً وبالتالي، فإن خزاناً بسعة 10 براميل يكفي العائلة لثلاثة أيام تقريباً.


ويروي سامي مأساته"أصحاب الصهاريج يتصرفون وكأن الماء ملك ابيهم ويسعرون بحسب ما يروق لهم وعلينا أن نقبل بالسعر وندفع كاش لكن من أين من راتب لا يكفي قوت 7 ايام مع التقنين بكل شيء".



من جانبهم يبرر أصحاب الـ"سيترنات" موقفهم من رفع الأسعار بـ"اضطرارهم إلى تشغيل البئر على المولد الخاص حتى يتمكنوا من تلبية حاجات المواطنين في هذه الظروف الصعبة، كما أنهم محتاجون إلى المازوت من أجل تشغيل آلياتهم وكذلك تشغيل الموتور الذي سيتم عبره رفع المياه إلى أسطح المنازل".


بينما تطرح شاديا سؤالا حير كل المواطنين "من أين تأتي كل هذه الكميات التي تملأ صهاريج التوزيع يومياً إذا كانت البلاد تعاني من شح وجفاف؟"



هذا السؤال يبقى من دون إجابة واضحة، فمصادر المياه التي تعتمدها صهاريج التوزيع متنوعة، ووفق تقارير إعلامية فإن عدداً كبيراً من هذه الصهاريج يقوم بتعبئة خزاناته من آبار ارتوازية خاصة، يشترك في استثمارها أكثر من موزع، ويعملون على صيانتها وتخزين المياه فيها خلال أشهر الشتاء بهدف بيعها صيفا بكميات تجارية، أما في المناطق الواقعة خارج بيروت، فيلجأ الموزعون إلى ينابيع طبيعية أو برك مياه محلية، تزود بمضخات لسحب المياه بعد تنسيق مسبق مع البلديات.


خبير بيئي فضل عدم الكشف عن اسمه أكد أن "نسبة كبيرة من المياه المعبأة في الصهاريج تسحب من آبار ارتوازية غير مرخصة، وبعضها ملوث بالمجارير أو المواد الكيميائية، وغياب الرقابة يجعل من هذه المياه تهديدا يوميا لصحة اللبنانيين"، بدورها تؤكد منظمة الصحة العالمية أن المياه غير المعالجة أو المخزنة بطريقة خاطئة قد تنقل أمراضا مثل التيفوئيد، التهاب الكبد A، الكوليرا، والإسهالات المزمنة.

يشار إلى أن الجمعية العامة للأمم المتحدة اعترفت عام 2010 بالمياه كحق إنساني أساسي لا يجوز تحويله إلى سلعة خاضعة للاستغلال.

ليس من المبالغة القول إن معظم اللبنانيين يجدون أنفسهم مع بداية كل صيف، وأحيانا حتى في الشتاء، تحت رحمة أصحاب الصهاريج، نتيجة لغياب التخطيط والتنظيم والرقابة الرسمية، وإصلاح هذا الملف لا يحتاج إلى معجزة بقدر ما يتطلب قرارا سياسيا وإداريا جديا يضع خطة متكاملة تقوم على:

ـ إلزام أصحاب الصهاريج بالحصول على تراخيص رسمية مرتبطة بمواصفات تقنية وصحية واضحة.


ـ حصر مصادر التعبئة بالآبار والينابيع المرخصة والخاضعة للفحوص المخبرية الدورية.
ـ تفعيل الرقابة الصحية الصارمة عبر وزارة الصحة أو مختبرات معتمدة، مع نشر نتائج الفحوص للرأي العام بشفافية.

ـ تحديد تسعيرة رسمية معلنة تُلزم الجميع وترافقها غرامات رادعة بحق المخالفين.

ـ إصدار فواتير رسمية لإدخال القطاع في الدورة الاقتصادية الشرعية ومنع الاستغلال.

ـ إنشاء خط ساخن وفرق تفتيش ميدانية لمتابعة الشكاوى والمخالفات ومحاسبة المرتكبين.

سيترنات المياه في لبنان لم تعد مجرد وسيلة بديلة، بل تحولت إلى قطاع قائم على الفوضى والابتزاز، يبيع ماء غير مضمون الجودة بأسعار تستنزف المواطن، وغياب الدولة عن الرقابة حول هذه الشاحنات إلى مصدر محتمل للمرض بدل أن تكون حلاً للعطش، ما يطرح سؤالًا جوهريا: إلى متى يبقى شريان الحياة في لبنان رهينة عشوائية قاتلة؟


الديار - ربى ابو فاضل

أقرأ أيضاَ

مصر ستُصدّر الكهرباء.. إلى لبنان وسوريا والعراق

أقرأ أيضاَ

الدولة جدية في ضبط أصحاب مولّدات الكهرباء: تعرفة رسمية وعدّادات