نساء الخياطة… إبرة تصون الكرامة في زمن الغلاء

نساء الخياطة… إبرة تصون الكرامة في زمن الغلاء -- Sep 25 , 2025 26

في زمنٍ يطغى فيه الغلاء على تفاصيل الحياة اليومية، وتضيق سبل العيش أمام العائلات، تعود الإبرة والخيط ليكونا أكثر من مجرد أدوات تقليدية، بل ليكونا رمزًا لصمود النساء في مواجهة الحاجة. في الأزقة الشعبية كما في القرى البعيدة، نسمع صدى ماكينات الخياطة القديمة، تدور كأنها تحفظ كرامة بيوتٍ ما عادت تعرف الاستقرار الاقتصادي.

 

هؤلاء النسوة اللواتي وجدن في الخياطة باب رزق متواضعًا، لم يكنّ يبحثن عن رفاهية، بل عن قوت يومي يحفظ لهن ولأطفالهن أبسط مقومات العيش. بين قماش ممزق يُرقَّع، أو ثوب يُعاد تفصيله ليلائم طفلاً آخر من العائلة، تتجسد حكاية صبرٍ طويل. فالإبرة التي تخيط الجيوب المثقوبة، تخيط معها أيضًا كبرياء نساء يرفضن الاستسلام لليأس.

تقول إحدى الخياطات في حيّ فقير: "الخيط بيوصلني لأولادي. ما بدي صدقة من حدا، ولا بدي مدّ إيدي. يكفيني إنو تعبي بيوفر خبزة عالطاولة". كلماتها تختصر فلسفة البقاء، حيث تتحول غرفة صغيرة مضاءة بمصباح خافت إلى ورشة إنتاج متواضعة، يخرج منها قميص مجدد، أو فستان يعاد له بريق بسيط.

الخياطة بالنسبة لهؤلاء النسوة ليست مجرد مهنة. هي أيضًا متنفس نفسي، ووسيلة لاكتشاف القوة الكامنة في الداخل. كل غرزة تعني لهن مواجهة، وكل ثوب يكتمل بين أيديهن يشبه نصرًا صغيرًا. وفي وقتٍ صارت فيه كلفة الملابس الجديدة عبئًا، تبرز الخياطة كبديل اقتصادي ذكي، يمنح حياة أطول للملابس بدل رميها.

لكن وراء هذا المشهد، تختبئ معاناة صامتة. فالإبرة التي تنقذ من الجوع لا تعفي من وجع الظهر، ولا من السهر الطويل أمام ماكينة متعبة. كثيرات يواجهن ظروفًا صحية صعبة بسبب الجلوس ساعات متواصلة، لكن الحاجة أقوى من التعب. وبعضهن يضطر إلى تقاضي أجر زهيد لا يعكس قيمة الجهد المبذول، إذ أن السوق نفسه خاضع لسلطة الاستغلال.

رغم ذلك، لا تزال الخياطة تمثل مساحة أمل. ففي الأحياء اللبنانية كما في أماكن أخرى من العالم العربي، تُقيم النساء شبكات تضامن صغيرة: تتشارك الواحدة منهن الأقمشة الفائضة مع الأخرى، أو تساعد جارتها في تسليم الطلبات. هناك شعور جمعي بأن الحفاظ على الكرامة مسؤولية مشتركة، وأن اليد الواحدة قادرة على مدّ الخيط ليصل إلى يدٍ ثانية.

في النهاية، لا يمكن النظر إلى هذه المهنة كحرفة قديمة فحسب، بل كمرآة لواقع اجتماعي صعب، وكتعبير عن إرادة نساء يواجهن القسوة اليومية بوسائل بسيطة. إنهن يعلّمن المجتمع درسًا بليغًا: أن الكرامة لا تُشترى، بل تُصان بإبرة، وبصبرٍ يغزل الخبز من خيوط متواضعة.

جوانا صابر - نداء الوطن

أقرأ أيضاَ

قرار من المجلس الدستوري.. إليكم مضمونه

أقرأ أيضاَ

"مافيا المولدات" بمواجهة الدولة.. هل بدأ زمن تفكيك الإمبراطورية الكهربائية؟