عن خطورة الاعتراف بدين الـ16.5 مليار دولار -- Oct 01 , 2025 26
لم تُحسم، حتّى اللحظة، جميع المقاربات التي ستُعتمد في قانون التوازن المالي، أو قانون الفجوة كما يُعرف إعلاميًا. وأبرز المسائل الخاضعة للتفاوض حاليًا، بين المصرف المركزي ووزارة الماليّة، ترتبط بدين الـ 16.5 مليار دولار، الذي أضافه رياض سلامة إلى ميزانيّة مصرف لبنان سنة 2023، بوصفه التزاماً على الدولة لمصلحة المصرف، في حين تُنكر وزارة الماليّة مشروعيّة أو قانونيّة هذا الدين.
وللتذكير فقط، أجرى رياض سلامة، بمناورةٍ غير مألوفة، إضافةَ هذا الدين منذ سنتين؛ إذ عاد بالزمن إلى الوراء لغاية العام 2007، وقرّر -بمفعول رجعي- أن يحتسب نفقات الدولة بالدولار بوصفها ديوناً عليها، حتى لو كانت مغطاة في ذلك الوقت بجبايات ضريبيّة بالليرة اللبنانيّة. أي بمعنىً آخر، وبدلاً من أن تُلحظ هذه النفقات بوصفها عمليات قطع كما هي بالفعل، عبر تحويل الجبايات من الليرة إلى الدولار لاستخدامها، عمد سلامة إلى اعتبارها ديونًا. وبذلك غيّر سلامة في العام 2023 طبيعة العمليّات المُحاسبيّة التي جرت في الماضي، على امتداد 16 سنة، من أجل استحداث هذا الدين. في الوقت الحاضر، لا ترفض وزارة الماليّة فكرة مساهمة الدولة في إعادة رسملة المصرف المركزي، ضمن هامش لا يهدد استدامة الدين العام؛ أي أن لا تضطر الدولة لتسجيل ديون لن تتمكن من سدادها في المستقبل. لكنّ رفضها لفكرة دين الـ 16.5 مليار دولار، في مكانه. والاعتراف بهذا الدين، سيُغرق لبنان في دوّامة من المخاطر القانونيّة والماليّة، التي لا يفترض الاقتراب منها. فما هذه المخاطر؟
التفاوض مع حملة اليوروبوند
من المهم أن نتذكّر أن البلاد مقبلة على جولة من المفاوضات مع حملة سندات اليوروبوند، التي توقّف لبنان عن سدادها منذ العام 2020. وغاية المفاوضات ستكون إعادة هيكلة هذه الديون؛ أي الاتفاق مع الدائنين على استحقاقات وفوائد جديدة، بعد اقتطاع نسبة من قيمة هذه السندات.
كم ستبلغ قيمة هذه السندات بعد إعادة الهيكلة؟ وكم ستكون الفائدة؟ ومتى ستستحق السندات؟ هذا ما ستقرّره جولات التفاوض بين الطرفين. غير أنّ المؤكّد، هو أنّ حملة السندات سيتسلّحون بجميع الحجج والأسلحة القانونيّة الممكنة، لفرض أفضل شروط لمصلحتهم، عند بدء المفاوضات. وهنا بالضبط، تبرز خطورة الاعتراف بدين الـ16.5 مليار دولار.
اعتراف الحكومة بهذا الدين، سيعطي حملة السندات الحججَ القانونيّة المناسبة لاتهام لبنان بالتحايل وسوء النيّة، قبل التخلّف عن الدفع أو بعده، وذلك بطريقتين:
(1) إذا كان هذا الدين مشروعًا، واعتُرف به، فهذا يعني أنّ الدولة أخفت ديون فعليّة قبل العام 2023، عبر عدم لحظها في ميزانيّة مصرف لبنان قبل ذلك العام، وعدم ذكرها في عقود إصدار سندات اليوروبوند. وهذا ما يعني أن الحكومة غشّت الدائنين، حين أصدرت السندات وباعتها في الأسواق الدوليّة، عبر إخفاء واقعها المالي الفعلي وحقيقة التزاماتها القائمة.
(2) إذا لم يكن الدين مشروعًا، واعتُرف به، فهذا يعني أنّ وزارة الماليّة ومصرف لبنان قاما بعمليّة احتياليّة لإضافة هذه الديون على نحوٍ غير قانوني. وهذا ما سيضر بمصالح حملة السندات، عبر رفع مستويات الدين إلى حدود غير مستدامة في المستقبل.
في الحالتين، ستكون الدولة في موقف قانونيّ صعب أمام حملة السندات. مع الإشارة إلى أنّ عقود إصدار السندات نصّت على بند خاص مرتبط بالإفصاح والشفافيّة، بما يحمّل الدولة مسؤوليّة الإخلال بالتزاماتها في حال أخفت معلومات مرتبطة بوضعها المالي وديونها.
ضرب استقلاليّة مصرف لبنان
المشكلة الثانية التي سيُسبّبها هذا الدين، إذا اعتُرف به، هي ضرب استقلاليّة المصرف المركزي من الناحية القانونيّة والماديّة. فمن المعلوم أن موجودات أي مصرف مركزي، وفق اجتهادات محاكم نيويورك السابقة، محصّنة إزاء مطالبات دائني الحكومات، لكن بمقدار ارتباط هذه الموجودات بوظائف المصرف المركزي، وعلى أساس استقلاليّة المصرف المؤسسيّة والقانونيّة. وعليه، ملاحقة بعض موجودات مصرف لبنان الموجودة في الولايات المتحدة، مثل الذهب واحتياطات العملات الأجنبيّة، تستوجب أولًا الطعن باستقلاليّة مصرف لبنان، والوظيفة التي تخدمها موجوداته.
هنا بالضبط تبرز مخاطر الاعتراف بدين الـ 16.5 مليار دولار؛ فاعتراف وزارة الماليّة بهذا الدين، سيفتح باب الطعن بالاستقلاليّة المؤسسيّة والقانونيّة لمصرف لبنان، من باب اتهامه بالتواطؤ لترتيب ديون جديدة على الدولة، لمصلحته، على نحوٍ غير قانوني، أو إخفاء هذه الديون في ميزانيّاته في مرحلة ما قبل العام 2023 (كما أشرنا أعلاه في الاحتمالين). وعلى أي حال، سيُحاجج حملة السندات أنّ غاية هذا التواطؤ إنما تهدف إلى تحميل الدولة نفسها، كلفة خسائر رتّبتها عمليّات مصرف لبنان السابقة، وهو ما يفتح المطالبة بتحميل المصرف المركزي -في المقابل- نسبة من خسائر الدولة ومديونتها.
حقوق المودعين وصندوق النقد
طوال الأسابيع الماضية، سرت حملات على وسائل التواصل الاجتماعيّة، لتسويق فكرة مفادها أنّ "شطب" هذا الدين سيعني "شطب" حقوق المودعين. كما رُبط موقف وزارة الماليّة بشروط صندوق النقد الدولي، وإصراره على تخفيض حجم الدين العام. لم يكن هناك دقّة في كل هذه المزاعم.
من ناحية أولى، لا يوجد ما هو أكثر خطورة على حقوق المودعين من ربطها بديون لن تُسدّد يومًا ما. ومن تحويل الودائع إلى التزامات ستُعاد هيكلتها، عاجلًا أم آجلًا، ما دامت الدولة التي يفترض أن تكون بهذه المبالغ متعثّرة أصلًا عن سداد ديون القائمة. ولا يوجد ما هو خطر على حقوق المودع أكثر من فتح الباب أمام مخاطر قانونيّة، قد تؤدّي إلى المساس بآخر ما تبقى من موجودات مصرف لبنان وملاءته. وللتذكير فقط، تتجاوز قيمة احتياطات الذهب والعملات الأجنبيّة الـ 2.8 مرّات قيمة هذا الدين المزعوم، غير القابل للسداد.
من ناحية ثانية، لم تأخذ وزارة الماليّة موقفًا رافضًا لفكرة إعادة رسملة المصرف المركزي، من حيث المبدأ. غير أنّها ربطت هذا الإجراء بمسألة وحيدة، هي سقف الدين الذي يمكن للدولة أن تتحملّه في المستقبل؛ أي استدامة الدين. وهذا لا يختلف عن المبدأ الذي أسلفنا ذكره: أن لا تُربط مسألة إعادة الرسملة، وتاليًا حقوق المودعين، بالتزامات لن تُسدّد.
أمّا صندوق النقد، فلم يتدخّل مع وزارة الماليّة في مسألة قانونيّة داخليّة تخص علاقتها بمصرف لبنان، بخلاف كل ما أُشيع في الفترة الماضية. وهو معنيّ بإجمالي الدين الذي سيبقى مستقبلًا، بعد تحميل الدولة نصيبها من عمليّة إعادة الرسملة، ثم بعد إعادة هيكلة سندات اليوروبوند. وهذا ما يأخذنا مجددًا إلى مفهوم استدامة الدين؛ أي عدم ترتيب ديون لن تُسدّد.
ثمّة مؤشّرات تدل على ليونة أبداها مصرف لبنان مؤخرًا، عبر الانتقال من التفاوض على فكرة دين الـ 16.5 مليار دولار، إلى التفاوض على مساهمة الدولة في رسملة المصرف. وهذه المؤشّرات، إن صحّت، تشير إلى أن الأمور تذهب في الاتجاه الصحيح. إنَّ الاعتراف بهذا الدين سيمثّل خطورة لا يمكن تجاهلها: على حقوق المودعين، ومصلحة الدولة اللبنانيّة، وموجودات مصرف لبنان، وعلى مسار إعادة هيكلة الدين العام بأسره.
علي نور الدين - المدن