الهروب إلى الذّهب: الدّولار “مشكلة العالم”؟ -- Oct 22 , 2025 11
تثير الارتفاعات القياسية في أسعار الذهب تساؤلاتٍ أكثر ممّا تُقدِّم إجابات. فمضاربات الأسواق لا يمكن أن تفسّر وحدها قفزة المعدن الأصفر إلى مستوياتٍ تتجاوز 4,300 دولار للأونصة، (على الرغم من تراجعات الأمس)، أي أكثر من 120 ضعفَ سعره حين فكّت الولايات المتّحدة ارتباطه بالدولار عام 1971.
هناك ما يُخيف العالم فعلاً، وهناك ما يُعاد تسعيره من جديد في نظامٍ ماليّ يتبدّل على نحو غير مسبوق. قد يذكّر ما يجري بمقدّمات الأزمات الكبرى. فالذهب عادةً ما يسبق العواصف بخطوة، فيتحوّل إلى ملاذٍ آمنٍ يعكس مخاوف المستثمرين من تضخّمٍ جامح أو أزمة ماليّة أو توتّراتٍ جيوسياسيّة تخرج عن السيطرة.
في موجة الارتفاعات الراهنة، تشير الأصابع بشكلٍ خاصٍّ إلى تراجع الثقة بالدولار الأميركيّ، بل وبالعملات التقليديّة عموماً، حتّى بات شائعاً تعبير “إعادة التسعير الشاملة” (Debasement Trade)، الذي يعني بوجهٍ من الوجوه أنّ أسعار كلّ الأصول، من السلع إلى العقارات إلى الأسهم، يُعاد تسعيرها مقابل عملاتٍ تفقد قيمتها الشرائيّة بسرعةٍ لم يشهدها العالم منذ السبعينيّات.
معضلة عالميّة
قد يكون العالم استفاق متأخّراً على هذا التحوّل الاستراتيجيّ الصامت الذي بدأته الصين قبل أكثر من عشر سنوات في إدارة احتياطاتها. فبعدما بلغت حيازات الصين من سندات الخزانة الأميركيّة الذروة في أواخر عام 2013 عند أكثر من 1.3 تريليون دولار، بدأت بكين تدريجاً بتخفيض اعتمادها على الدَّين الأميركيّ حتّى تراجعت حيازاتها إلى قرابة 730 مليار دولار في منتصف 2025، بانخفاض يقارب 570 مليار دولار خلال عشر سنوات.
في الوقت نفسه، كانت الصين تراكم المزيد من احتياطات الذهب، فتضيف إلى حيازاتها نحو 630 طنّاً من الذهب خلال عشر سنوات، ويرتفع حجمها الإجماليّ إلى ما يقارب 2,300 طنٍّ.
غير أنّ المعضلة العالميّة تنكشف هنا. إذ إنّ مشتريات الصين من الذهب، على ضخامتها، لا تساوي سوى نسبة ضئيلة من قيمة السندات التي تخلّصت منها. فكلّ ما أضافته الصين من احتياطات الذهب لا تزيد قيمته بأسعار اليوم على 88 مليار دولار، بعد كلّ الارتفاع الجنونيّ للأسعار.
يكشف ذلك مدى ضيق سوق الذهب العالميّة مقارنةً بسوق السندات الأميركيّة. فإجمالي احتياطات البنوك المركزيّة الرسميّة من الذهب لا يتجاوز 36 ألف طن، أي ما يعادل نحو 5 تريليونات دولار بأسعار اليوم. أمّا سوق سندات الخزانة الأميركية فيبلغ وحده نحو 28 تريليون دولار. ولهذا يقول بعض خبراء الأسواق إنّ الذهب مفيد للتحوّط، لكنّه لا يمكن أن يوفّر بديلاً عن هيمنة الدولار في النظام الماليّ العالميّ.
لكلّ ذلك، لجأت بكين إلى أوعية ماليّة متعدّدة لتوزيع فوائضها الهائلة بعيداً عن سندات الخزانة الأميركية. فوجّهت جزءاً كبيراً من أموالها نحو أوراق ماليّة أميركيّة قصيرة الأجل ذات عائد هو الأعلى وسيولة مرتفعة، واستخدمت مراكز الحفظ الأوروبيّة في بلجيكا ولوكسمبورغ لتوظيف أصول مقوَّمة بالدولار من دون أن تظهر رسميّاً في الإحصاءات الأميركيّة. وإن دلّ ذلك على شيءٍ فإنّما يدلّ على ضيق مساحة المناورة أمام كلّ من يريد التخلّص من الانكشاف على الدولار الأميركيّ.
يبني الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب على هذه الحقيقة جاعلاً منها ورقة استراتيجيّة في إعادة رسم النظام الاقتصاديّ العالمي. فعلى الرغم من انخفاض قيمة الدولار وفقدانه 99% من قيمته مقابل الذهب في العقود الماضية (بفعل فاعل)، يدرك ترامب وفريقه أنّ العالم لا يملك حتّى الآن بديلاً حقيقيّاً لسوق سندات الخزانة الأميركية، من حيث العمق والسيولة والأمان القانونيّ. فالسندات الأوروبيّة سوق مجزّأة ومفتّتة، واليابانيّة مغلقة على اللاعبين المحلّيّين إلى حدّ بعيد، والبريطانية والسويسريّة محدودة الحجم. ولذلك لن تجد البنوك المركزيّة والبنوك في العالم بديلاً عن سندات الخزانة الأميركية، مهما بلغت رغبتها في تقليص اعتمادها على الدولار.
عملتنا ومشكلتكم
في مؤدّى ذلك ترى إدارة ترامب أنّها في موقع يسمح لها بخفض قيمة الدولار لمعالجة عجز موازينها التجاريّة والجاريّة، من دون أن تُضعف هيمنته على النظام العالميّ. وهناك سابقة تاريخيّة قام بها رونالد ريغان عام 1985 حين أجبر الأخير القوى الاقتصاديّة الكبرى على رفع أسعار عملاتها مقابل الدولار في ما عُرف بـ اتّفاق “بلازا” الشهير، الذي سُمّي على اسم الفندق الشهير في نيويورك الذي شهد توقيعه.
منذ انتخاب ترامب، يتردّد في الأوساط الاقتصاديّة الأميركية أنّه يريد إجبار القوى الكبرى على صيغة مماثلة بات يُطلق عليها كناية: “اتّفاق مار-أ-لاغو”، تيمّناً بمنتجع ترامب الشهير الذي تُطبخ فيه التوجّهات الاستراتيجيّة الأساسيّة.
قد كان الرئيس الأميركي صريحاً في التعبير عن رغبته برؤية دولار قويّ من حيث المركز ومنخفض من حيث السعر، أو كما قال بكلماته: “عندما يكون لدينا دولار قويّ يبدو الأمر جيّداً، لكنّك لا تحصل على أيّة سياحة، ولا تبيع (تصدّر) أيّة جرّارات زراعيّة أو شاحنات أو أيّ شيء آخر”.
على هذه الأرضيّة يخوض ترامب مفاوضاته التجاريّة مع الصين وأوروبا واليابان والعالم أجمع. وفي خلفيّة المشهد تردَّد العبارة الشهيرة لجون كونالي، وزير الخزانة الأميركي الأسبق في عهد ريغان: “الدولار عملتنا، لكنّه مشكلتكم”.
ربّما تصحّ هذه العبارة اليوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى.
اساس ميديا - عبادة اللدن