ترسيم الحدود مع قبرص: فرصة اقتصادية أم تنازل سيادي جديد؟

ترسيم الحدود مع قبرص: فرصة اقتصادية أم تنازل سيادي جديد؟ -- Oct 24 , 2025 12

على الرغم من مرور عقود على ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وقبرص، لا تزال هذه القضية تثير الانقسام. فبينما تذهب الحكومة اللبنانية نحو إقرار اتفاقية ترسيم جديدة، يرى كثيرون أن لبنان يخسر آلاف الكيلومترات المربعة من مياهه الإقليمية الغنية بالثروات النفطية والغازية. والجدل عاد ليتصاعد بعد أن وافق مجلس الوزراء اللبناني يوم الخميس في 23 تشرين الأول على إبرام اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع قبرص، إلى جانب منح اتفاقية استكشاف وإنتاج الغاز في الرقعة البحرية رقم 8 لائتلاف شركات "توتال إنرجي" الفرنسية و"قطر للطاقة" و"إيني" الإيطالية.

السياق التاريخي وإشكاليات الترسيم

تعود جذور المشكلة إلى اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وقبرص في 17 كانون الثاني 2007 التي حددت المنطقة الاقتصادية الخالصة بين النقطتين 1 و6 بدلًا من النقطة 23. ورغم عدم تصديق المجلس النيابي اللبناني لهذه الاتفاقية، إلا أن إسرائيل استغلت هذه الثغرة في مفاوضاتها لترسيم الحدود البحرية مع قبرص، حيث اعتمدت النقطة رقم 1 بدلًا من النقطة رقم 23 كنقطة بداية.

ثم في 7 كانون الأول 2010، وقعت قبرص وإسرائيل اتفاقًا لترسيم الحدود البحرية بينهما، أثار جدلًا واستياءً في كل من مصر ولبنان بسبب تناقض آراء الخبراء حول حدود المنطقة الاقتصادية المشتركة، خاصة وأن إسرائيل لا تلتزم بالاتفاقية الدولية للبحار (1982) إذ إنها لم توقع عليها. وقد رفض لبنان هذا الاتفاق رسميًا، لأنه لم يكن طرفًا فيه، معتبرًا أن المنطقة التي تقع بين النقطتين رقم 1 و23، البالغة حوالي 860 كلم مربع، هي منطقة متنازعٌ عليها مع إسرائيل، ولا يجوز تضمينها في الاتفاق بين إسرائيل وقبرص.

وفي 27 تشرين الأول 2022، وقع لبنان وإسرائيل اتفاقًا لترسيم الحدود البحرية، واعتُمِدت النقطة رقم 23 كنقطة فاصلة مشتركة بينهما بدلًا من النقطة رقم 1. وبعد ذلك بأيام قليلة بدأت مفاوضات جديدة لترسيم الحدود البحرية بين لبنان وقبرص. والإشكالية الوحيدة المتبقية هي تحديد النقطة الثلاثية بين سوريا ولبنان وقبرص، وهي رهن الاتفاق الثنائي بين الدولتين السورية واللبنانية، إذ لا تعترف سوريا بتثبيت النقطة رقم 7 بدلًا من 6 كما جاء في المرسوم رقم 2011/6433.

لكن إسرائيل لم تكن لتتخلى عن المساحة البالغة حوالي 860 كلم مربع لولا صدور دراسات من خبراء في القانون البحري وترسيم الحدود، بالإضافة إلى مسحٍ دقيق أجرته مصلحة الهيدروغرافيا في الجيش اللبناني، أكدت أن النقطة رقم 29، التي تمنح لبنان نحو 1430 كلم مربع إضافية، هي نقطة البداية الصحيحة، وليس النقطة رقم 23. وهذا يعني عمليًا أن إسرائيل "تنازلت" عن 860 كلم مربع من الحقوق اللبنانية مقابل احتفاظها بـ 1430 كلم مربع أخرى (من الحقوق اللبنانية أيضًا) تشمل حقل كاريش للغاز، وذلك فيما وصفه رئيس الجمهورية السابق ميشال عون الذي وقّع على الاتفاق "إنجازًا تاريخيًا يحفظ حقوق لبنان كاملة".

خلافات داخلية وتحديات راهنة

تكشف الوثائق والتصريحات عن خلافات عميقة تواجه ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وقبرص. فقد أكّد رئيس لجنة الأشغال العامة والنقل والطاقة والمياه النائب سجيع عطية حدوث تنازلات كبيرة من الجانب اللبناني في المفاوضات مع كل من قبرص وإسرائيل عقب جلسة عقدتها اللجنة في أيلول الماضي، حيث قال حول الاتفاق مع إسرائيل: "التجربة السابقة لم تكن نتائجها مقنعة مع العدو الاسرائيلي وتخلّلها شوائب"، وأضاف حول الاتفاق مع قبرص: "بالترسيم في الاتفاقية السابقة التي حصلت عام 2007، نحن خسرنا حوالي 2600 كيلومتر وفيهم غاز طبيعي". إلا أن الخبيرة في مجال حوكمة النفط والغاز لوري هايتايان أشارت في مقابلة صحافية إلى أنه "لا دليل على وجود كميات من الغاز الطبيعي في المساحة المشار إليها، ولم تجر أي اكتشافات تؤكد أو تنفي ذلك".

أما النائب السابق لرئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي، فأشار في تقرير نُشِر على موقع "المرصد البرلماني" إلى أن اللجنة اللبنانية للتفاوض مع قبرص تثير العديد من علامات الاستفهام حول تركيبها. ويبرز أن التشكيلة أغفلت تضمين أي خبير مستقل في ترسيم الحدود، مقتصرة على أعضاء يتبنون موقفًا واحدًا يتمثل بالسير وفق اتفاقية 2007 وتجنب التحكيم. ولاحظ الفرزلي إقصاء جميع الأصوات التي دعت إلى إعادة التفاوض لتحقيق مكاسب إضافية للبنان، والتي تشمل خبراء قدّروا أن المساحة التي يمكن للبنان المطالبة بها تتراوح بين 2600 و5000 كلم مربع إضافية. ويعترض الفرزلي على دراسة المحامي نجيب مسيحي لتبنيها اتفاقية 2007 كأساس للترسيم مستندةً إلى مبدأ "استوبال" (Estoppel)، ويشيد بلجنة الأشغال العامة النيابية التي حسب رأيه رفضت التنازل عن الحقوق اللبنانية، حيث دعت إلى تصحيح الأخطاء الجوهرية في اتفاقية الترسيم لعام 2007 التي حرمت لبنان من مساحات بحرية شاسعة.

فيما أدلى وزير الطاقة والمياه جو الصدّي بتصريحٍ خلال مؤتمر صحافي من قصر بعبدا يوم الخميس في 23 تشرين الأول 2025، أوضح فيه أن "ائتلاف الشركات أبدى اهتمامًا بالبلوكين رقم 8 و10، وقد أكد الائتلاف التزامه بالمضي في المسح الزلزالي في البلوك رقم 8"، مشيرًا إلى أن حدود البلوك رقم 8 الذي سيجري العمل فيه قد رُسِّمت في العام 2022 ولا خلاف حولها. أما بالنسبة للبلوك رقم 9، فأكد الصدّي أن "الائتلاف أنهى عمليات المسح فيه وتبيّن أن النتائج لم تكن كما كان متوقعًا"، مضيفًا أن "لا أبعاد سياسية في هذا السياق، بل هناك تقرير علمي يثبت هذه النتائج (...) وفي حال كانت نتائج المسح في البلوك رقم 8 إيجابية، فلن يتأخر البدء بالعمل فيه".

يستمر الجدل حول ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وقبرص بين اعتباره إنجازًا عمليًا يحقق مكاسب ضرورية تشجع الشركات على البدء في العمل فورًا، أو تنازلًا يهدر الحقوق السيادية للبنان على المدى البعيد.

وفي ظل الخلافات الداخلية وتباين التقديرات حول حجم الخسائر المحتملة، مع غياب الشفافية والرؤية الاستراتيجية الموحدة، تبرز التساؤلات حول ما إذا كان هذا الاتفاق يمثل أفضل ما يمكن تحقيقه في الظروف الراهنة، أم أن التنازلات المقدمة ستثبت لاحقًا أنها خسارة استراتيجية لا يمكن تعويضها. وستكون نتائج الاستكشاف القادمة هي الفيصل في تحديد حقيقة ما إذا كان لبنان قد حافظ على ثروته أم أهدرها.

هاني عضاضة - المدن

أقرأ أيضاَ

إنخفاض بأسعار المحروقات...

أقرأ أيضاَ

سقوط اقتراح الإعفاء من الغرامات