كيف التهم العجز المزدوج أموال المودعين؟

كيف التهم العجز المزدوج أموال المودعين؟ -- Dec 15 , 2025 18

كتب جاسم عجاقة في الديار - يُحَمِّل مشروع قانون مُعالجة الفجوة المالية الذي تمّ تسريبه للإعلام، مسؤولية الإنهيار بالكامل للحكومة، ولكن السؤال الجوهري: هل فعلا هذا الإستنتاج نابع من فهم ما حصل فعليا؟ أم هو إرضاء للرأي العام؟ مُقاربة الحكومة لمُعالجة الفجوة المالية، تُظهر أن هناك إهمالا (عن قصد أو غير قصد) في فهم أسباب الأزمة وجوهرها. في هذا المقال، وبالأرقام سنُحاول إظهار علاقة العجز المزدوج (عجز الموازنة وعجز الحساب الجاري) بالإنهيار، وكيفية إنفاق أموال المودعين.

في علم الاقتصاد الكلّي، هناك مُعادلة أساسية تجمع بين الإدخار والإستثمار في إقتصاد مفتوح، وتُستخدم غالباً لفهم التوازن الخارجي للبلد المعني:

رصيد الحساب الجاري رصيد القطاع الخاص + رصيد القطاع الحكومي

هذه المعادلة ليست مجرد نظرية مجردة، بل هي أداة قوية تسمح لفهم كيف لبلد مثل لبنان أن يعيش فوق إمكانياته، وهي تكشف حقيقة بسيطة لكنها عميقة: يتشكل الميزان الخارجي لأي دولة (حسابها الجاري)، من خلال القرارات المالية المتخذة داخليا من قِبل الأسر والشركات والحكومة.

في المُعادلة أعلاه، نرى على اليمين عبارة <الحساب الجاري>، وهو مقياس للعلاقة المالية للدولة مع بقية العالم. وبالتالي، فإن الرصيد يسمح بمعرفة إذا كنا نربح من الصادرات والتحويلات المالية والإستثمارات الأجنبية، أكثر مما نُنّفقه على الإستيراد والتحويلات الخارجية. بمعنى آخر عندما يكون الرصيد سلبيا، فهذا يعني أننا ننفق أكثر مما نكسب، وبالتالي نقترض من العالم الخارجي لتمويل نمط حياتنا. لكن من أين يأتي هذا الاقتراض؟

للرد على هذا السؤال، يجب تحليل الجهة اليسرى من المُعادلة:

- رصيد القطاع الخاص، وهو عبارة عن المُدخرات الخاصة ناقص الإستثمارات، ويعكس قدرة الأسر والشركات على تمويل إستثماراتها. فإذا كانت المُدخرات الخاصة أقل من الإستثمار، هناك إلزامية لسد هذه الفجوة بالإقتراض إما من الحكومة أو من الخارج. عملياً، يظهر هذا غالباً في إرتفاع الإنفاق الإستهلاكي، وإنخفاض مُدخرات الأسر، والإعتماد على الإقتراض الأجنبي أو الودائع بالدولار.

- رصيد القطاع الحكومي، وهو الميزان المالي المألوف لعامة الشعب، الضرائب المُحصلة ناقص الإنفاق الحكومي. عندما تنفق الحكومة أكثر مما تُحصِلّ (عجز في الميزانية)، فإنها تصبح هي الأخرى مقترضة، وتتنافس على نفس مصادر الإدخار.

أرقام رصيد الحساب الجاري ورصيد القطاع الحكومي متوافرة على موقع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ويُمكن تحميلها بسهولة. أما فيما يخص أرقام رصيد القطاع الخاص، فهي مُتقلّبة بشدّة ولا يُوجد تناغم بين الأرقام خلال سنوات الأزمة (2020-2023)، نتيجة إنهيار الناتج المحلي الإجمالي وتعدد أسعار الصرف. من هذا المُنطلق، قمنا بإستخدام المُعادلة أعلاه لإحتساب رصيد القطاع الخاص، وإستحصلنا على الرسم البياني المُرفق.

تُشير الأرقام إلى أن كل الأرصدة هي سلبية، وخصوصا الرصيد الحكومي في الفترة المُمتدّة من العام 2011 وحتى العام 2024، بإستثناء أربع سنوات 2017، 2020، 2023، و2024. وإذا كانت الأرقام خصوصا ما بعد الأزمة، تحوي على الكثير من علامات الإستفهام، فان العجز لا يأخذ بعين الإعتبار كل المُستحقات على الدولة (مثل مُستحقات الحكومة العراقية من الفيول)، إلا أنه على الرغم من ذلك إستخدمناها في حساباتنا، بهدف معرفة أين أُنفِقَت أموال المودعين.

الأمر الغريب في هذه الأرقام، هو أن رصيد القطاع الخاص المؤلّف من المُدخرات ناقص الإستثمارات هو سلبي، وسلبي بنسبة كبيرة. مع العلم أن ودائع المودعين وصلت إلى مستويات الـ 170 مليار دولار أميركي، في حين لم تتخط الإستثمارات بضعة مليارات من الدولارات! فكيف يُمكن تفسير ذلك؟

في الاقتصاد الكلي، يشير <الادخار الخاص> إلى الجزء من دخل الأسر والشركات، الذي لا يُنفَق على الاستهلاك، ويُحسب وفق المعادلة: الإدخار الخاص الدخل الوطني - الضرائب - الإستهلاك، أي ببساطة ما يتبقّى بعد أن تدفع الأسر والشركات ضرائبها وتشتري حاجاتها. أما الودائع المصرفية، فهي مجرّد أداة مالية يُودَع فيها المال، وقد تأتي من الإدخار الحقيقي، لكنها قد تنبع أيضا من مصادر أخرى مثل الإقتراض، أو التدفقات الدولارية (كتحويلات المغتربين)، أو حتى من <هندسة مالية> كعروض الفوائد المرتفعة على الودائع بالليرة، التي شجّعت الناس على تحويل دولاراتهم إلى ليرة، لتحقيق مكاسب قصيرة الأجل، دون أن يرتفع الإدخار الحقيقي فعليا.

وفي حالة لبنان ما قبل الأزمة، بلغت الودائع المصرفية ذروتها لتتجاوز 170 مليار دولار أميركي، مما خلق إنطباعا مضللا بأن الإقتصاد يدّخر بكثافة. لكن الحقيقة كانت مختلفة: فجزء كبير من هذه الودائع كان قادما من تحويلات خارجية، لا من إنتاج محلي، بينما ظل الاستهلاك مرتفعا جدا (من السيارات إلى العقارات)، مما جعل الإدخار الخاص الحقيقي منخفضا، بل وسلبيا.

وحين تباطأت التحويلات وإنهارت الثقة في العام 2019، إنهار النظام كله، لأن الاقتصاد لم يكن يستند إلى مدخرات حقيقية، بل إلى وهم مالي هش. وهذه المفارقة تكتسب أهميتها في سياق هوية الإدخار- الإستثمار، إذ إن إنخفاض الإدخار الخاص (أو سلبيته)، يعني أن القطاع الخاص ينفق أكثر مما يجني، وعليه يقترض، مما يعمّق العجز الخارجي.

من هذا المُنطلق، حجم الودائع ليس سوى مؤشر سطحي للنشاط المالي، بينما يعكس الإدخار الحقيقي متانة الإقتصاد وقدرته على الصمود. وفي لبنان ما بعد الأزمة، لم يعد المطلوب إعادة التضخيم الظاهري للأرقام المصرفية، بل بناء قدرة فعلية على الإدخار، لأنها السبيل الوحيد لإغلاق فجوة الحساب الجاري بشكل مستدام.

في الواقع، كانت الودائع الضخمة خصوصا بالدولار الأميركي، تُستخدم في تمويل عجز الخزينة وتمويل فاتورة الإستيراد (من خلال سعر الصرف الثابت)، التي لم تُغطيّها الصادرات. لكن وراء هذه الآلية المالية، كانت هناك مشكلة أعمق: إختلال هيكلي في أساس الإقتصاد! فقد عاش لبنان فوق إمكانياته لعقود، من خلال إستهلاك هائل مُعظمه مستورد وعجز في الموازنة، ناتج عن فساد هائل في الإدارة. وبالتالي، فإن العجز الضخم في الحساب الجاري لم يكن سوى إنعكاس لهذا الإختلال. أما الودائع فقد كانت تؤخّر الكارثة من خلال التمويل.

جريمة الحكومات المُتعاقبة أنها لم تتخذ أي إجراءات لتصحيح هذا الخلل، بدءا من رفع الرسوم الجمركية، وصولا إلى محاربة الفساد، ومرورا بإنشاء إقتصاد منتج يُغطي قسما كبيرا من الإستهلاك المحلّي. وبالتالي، مع جفاف التحاويل المالية، إنكشف الخلل الهيكلي في الإقتصاد!

في المحصلة، غالبا ما يُنظر إلى عجز الحساب الجاري على أنه مشكلة <خارجية>، تتمثّل بفائض في الإستيراد، أو تراجع في الصادرات، أو تباطؤ في تحويلات المغتربين. إلا أن الحقيقة هي أن الحساب الجاري هو مرآة صادقة للخيارات المالية والإقتصادية التي إتخذها لبنان على مرّ عقود.

أقرأ أيضاَ

اتحاد الأفران: إعفاء 85% من الغرامات وتقسيط المتأخرات لخمس سنوات

أقرأ أيضاَ

التجديد للأشقر على رأس نقابة أصحاب الفنادق بالتزكية