هل أبطأ لبنان محرّكات الإصلاحات الماليّة؟ -- Jun 30 , 2025 8
تلقّفت الأوساط الدبلوماسيّة -والغربيّة تحديداً- المتابعة للملف الاقتصادي اللبناني مجموعة مؤشرات مقلقة. وثمّة ما يوحي أنّ الاندفاعة التي أظهرها لبنان طوال الأشهر الماضية، باتجاه تنفيذ الإصلاحات الماليّة، بدأت تفقد زخمها شيئاً فشيئاً.
ما زالت الحكومة متمسّكة بالإطار العام للإصلاحات المتفق عليها مع صندوق النقد الدولي، وما زالت فرق عملها تسعى لتنفيذ أكبر قدر ممكن من هذه الشروط بغية الوصول إلى اتفاق نهائي مع الصندوق، وبأسرع وقت. غير أنّ ما يُخشى منه اليوم، هو فُقدان البيئة السياسيّة المُساعدة، التي سمحت للحكومة سابقاً بالقيام بخطوات جريئة، كإقرار قانون رفع السريّة المصرفيّة بأفضل صيغة ممكنة.
يمكن ربط هذا التباطؤ بالعديد من العوامل، أغلبها تأتي من خارج الحكومة نفسها. لكنّ الأكيد هو أنّ المزيد من التأخير في ملف الإصلاحات الماليّة سيُترجم في تأخيرات موازية، في مسارات أخرى، مثل إعادة الإعمار وسائر القروض والمنح الدوليّة المخصّصة للبنان. وثمّة ما يُقلق من جهة إمكانيّة استمرار هذا التباطؤ لغاية شهر أيلول، وهو ما يعني الدخول في مناخات الانتخابات النيابيّة، وما يصاحبها من ارتفاع في منسوب الخطاب الشعبوي، الذي لا يستقيم مع الأجواء التي تحتاجها مسارات الحلّ المالي. وهذا بالضبط ما يفترض أن يقرع جرس الإنذار.
علامات مقلقة
برزت خلال الأيام الماضية بعض العلامات المقلقة. في المجلس النيابي، دخل مشروع قانون إصلاح أوضاع المصارف مرحلة غير مسبوقة من التعقيدات، الناتجة عن التباين في طرحي الحكومة ومصرف لبنان. فحاكم المصرف المركزي ما زال مصراً على صيغته، التي تذهب باتجاه استحداث لجنة جديدة، موازية للهيئة المصرفيّة، للإشراف على عمليّة إعادة هيكلة القطاع. وحتّى هذه اللحظة، لم تفلح المساعي الرامية لردم الهوّة بين الطرحين، بينما يطرح رئيس لجنة المال والموازنة إبراهيم كنعان إمكانيّة إعداد جدول يُظهر الفروقات ما بين الطرحين، وترك المسألة للتصويت لاحقاً.
في جميع الحالات، بانت الآن مخاوف جديّة من العودة إلى سيناريوهات العام 2020، حين واجهت الحكومة اللبنانيّة سعي حاكم المصرف المركزي لخلق رؤية مستقلّة للمعالجات الماليّة، بعيداً عن الخطّة العامّة المُعلنة. وتعزز هذه المخاوف ما يتواتر من أنباء عن مضمون لقاءات الحاكم في واشنطن مع صندوق النقد الدولي، والتي تناولت طروحاته لمعالجة الأزمة المصرفيّة بشكلٍ مستقل عن الإطار الأوسع للتفاهم ما بين الصندوق والحكومة اللبنانيّة.
وفي الوقت نفسه، يتكرّر تسريب المعلومات التي تشير إلى اتجاه المصرف المركزي لتعيين استشاري مالي خاص به، وهو ما يوحي أيضاً بأنّ المصرف يسعى لصياغة حلول مستقلّة عن تلك التي تعمل عليها الحكومة. ما يطرح مجدداً احتمال التباين ما بين أهداف خطّة المصرف المركزي، والأهداف التي ستضعها المعالجات الحكوميّة.
الخوف من فصل المسارات
يُصرّ مصرف لبنان على مبدأ فصل مساراته، المتعلّقة بالشأن المصرفي، عن تلك التي ستعمل عليها الحكومة بالاتفاق مع صندوق النقد، بخصوص إعادة هيكلة الدين العام والتصحيح المالي. غير أنّ المشكلة تكمن في صعوبة فصل هذه المسارات، وخصوصًا في ظل ارتباط إشكاليّة معالجة فجوة الماليّة في القطاع المصرفي، بالجانب المتعلّق بالمسؤوليّة التي ستتحمّلها الدولة، بحسب ما تطالب المصارف. وبصورة أوضح، من المستحيل الوصول إلى تصوّر متكامل حول حجم الدين العام الذي سيتبقّى في النهاية، فضلاً عن كيفيّة جدولته، قبل فهم حجم المسؤوليّة التي ستُلقى على عاتق الدولة عند إعادة هيكلة المصارف (أو كيفيّة التعامل مع هذه الإشكاليّة).
وعند هذه النقطة بالذات، عادت لتُثار الخلافات حول مسألة الدين العام الذي استحدثه رياض سلامة عام 2023، وسجلّه كالتزام على الدولة اللبنانيّة، بقيمة 16.5 مليار دولار أميركي. مع الإشارة إلى أنّ سلامة زعم أنّ هذا الدين مبرّر بموجب "تفاهمات شفهيّة" سابقة مع وزراء الماليّة السابقين، من دون أن يبرز أي وثيقة تؤكّد ترتيب الدين على الدولة (يفترض أن يتم تشريع أي دين بموجب قانون).
وزارة الماليّة كانت قد اعتبرت سابقاً أنّ هذا المبلغ لا يمثّل سوى عمليّات قطع، قامت بموجبها بشراء الدولارات من مصرف لبنان منذ العام 2007، قبل أن يقرّر سلامة فجأة احتساب الأموال كديون عامّة سنة 2023. أمّا حاكم مصرف لبنان الحالي، فيبدو منحازاً لفكرة احتسابها كديون على الدولة، في ميزانيّة مصرف لبنان، وهو ما يطرح السؤال عن كيفيّة معالجة هذه المسألة خلال الفترة المقبلة.
خشية من التداعيات
خلال الزيارة الأخيرة لبعثة صندوق النقد، أبدت البعثة خشيتها من تأخّر قانون إصلاح أوضاع المصارف لغاية ما بعد شهر أيلول المقبل. إذ بعد هذا الشهر، سيقترب موعد الانتخابات النيابيّة، وما يصاحب هذه الاستحقاق من تجاذبات تطغى عليها الجوانب الشعبويّة. وعند هذه المرحلة، سيكون من الصعب التقدّم كثيراً في أكثر جوانب المعالجات الماليّة حساسيّة، وتحديداً تلك المتصلة بالأزمة المصرفيّة. على هذا الأساس، من المبرّر هنا الخوف من تأخير هذه المعالجات برمّتها لغاية ما بعد شهر أيّار المقبل، في حال لم يتقّدم لبنان كثيراً في إنجازها قبل شهر أيلول.
في الوقت نفسه، بات من المعلوم أن قدراً مهمّاً من المساعدات التي يترقّبها لبنان لإعادة الإعمار بات مربوطاً بالاتفاق مع صندوق النقد، حول الإصلاحات الماليّة المؤجّلة، أو على الأقل تنفيذ الجزء الأكبر من شروط الصندوق. وهذا ما يعني أنّ كلفة التأخير في ملفّات الإصلاح المالي ستتجاوز حدود أزمات الودائع والدين العام وحدها، لتطال مسائل قادرة على زعزعة الاستقرار الاجتماعي والمعيشي في البلاد.
علي نور الدين - المدن