الزراعة في مهبّ ريح السياسة... الكبتاغون: "ضربة القطاع القاضية" -- Aug 08 , 2025 7
من أقصى البقاع إلى الجنوب فالشمال، يتعب المزارع تحت الشمس والمطر ليزرع حبّة قمح أو يقطف الفواكه والخضار التي يعتبرها مصدر رزقه، لكن كانت "المياه تمرّ تحت قدميه من دون أن يعلم"، معركة تُخاض باسمه من دون درايته.
المزارع والمصنّع اللبناني الذي اعتاد أن يكون رمزًا للإنتاج النقيّ، يجد نفسه اليوم متّهمًا، محاصرًا، ومحرومًا من الأسواق الخليجية التي شكّلت لعقود مصدر دخله الأكبر، كلّ ذلك ليس لأنه قصّر في عمله، ولا لأنه تورّط في التهريب، بل لأنّ بعض العصابات حوّلت الأرض التي كانت ميدان الخير إلى مسرح لمصالحها الخاصة.
عملية الجيش النوعية في الشراونة وسقوط علي منذر زعيتر، المعروف بـ "أبو سلّة"، قد تعطي للبنانيين شعورًا بالأمان، لكنها لا تمحو الخسائر التي دفعها المزارع وشركات الشحن اللبنانية منذ سنوات.
"أبو سلّة" لم يكن مجرّد مطلوب، بل كان أحد أركان منظومة حوّلت سمعة المنتجات اللبنانية من "أفخر الفاكهة والخضار" إلى "شحنات ملوّثة بالكبتاغون".
اليوم، بعد كلّ هذه السنوات من التهريب، والسوق السعودية والخليجية مقفلة بوجه التفاح اللبناني، والحمضيات وغيرها، سؤال بديهي يطرح نفسه: كم من مزارع ومصنّع دفع الثمن؟
الذي كان يحلم بتوسيع عمله، بات يبحث عن مورد بديل لتأمين قوته اليومي، فيما بقيت الدولة غائبة، وتركته لفترة يواجه وحده شبهة لم تكن له يد فيها، فدفع هو الثمن الأكبر في هذه المعركة.
بهذا الشأن، يعتبر رئيس هيئة تنمية العلاقات الاقتصادية اللبنانية - الخليجية، إيلي رزق، أنّ ملفّ تهريب الكبتاغون انعكس سلبًا على الصناعات اللبنانية بشكل عام وعلى المزارع اللبناني وشركات الشحن البري والبحري بشكل خاص، مشدّدًا على ضرورة أن تنفّذ الدولة انتشارًا لقواتها الشرعية على كامل الأراضي اللبنانية لتحقيق الأمن المستدام، واتخاذ الإجراءات اللازمة بالموانئ البرية والبحرية كوضع أجهزة للكشف على الحمولة (scanner).
ويضيف: "العملية التي نفّذها الجيش أمس تُعدّ نوعية ومهمّة، فاكتفينا من اعتماد مبدأ من يضربك على خدّك الأيمن در له الأيسر".
وكشف رزق أن "المزارع اللبناني يجد نفسه مضطرًا في فترة من الفترات إلى شحن منتجاته عبر سوريا وتغيير بلد المنشأ ليتمكّن من التصدير، ما يقلّص أرباحه بشكل كبير مقارنة بما كان يجنيه في السابق".
ويتابع: "المملكة العربية السعودية، ومعها دول الخليج، تراقب المشهد بدقّة، خاصة بعد جلسة مجلس الوزراء الأخيرة"، لافتًا إلى أن المرحلة المقبلة ستكون مفصليّة.
وفي ختام حديثه، يشدّد رزق على أنّ "الكرة اليوم في ملعب لبنان، والخليج ينتظر أفعالًا لا أقوالًا، بدءًا بضبط المعابر البرية والبحرية والجوية ومنع التهريب نهائيًا، وصولًا إلى الالتزام بما ورد في خطاب القسم ومقرّرات الحكومة، قبل أي خطوة جديدة في العلاقات الثنائية".
الكبتاغون: الضربة القاضية للزراعة
بين العلاقات الخليجية اللبنانية وبنود الخطابات والمقرّرات، يرفع المزارع اللبناني الصوت، "تهريب الكبتاغون كان بمثابة الضربة القاضية للقطاع"، يقول رئيس تجمّع مزارعي وفلّاحي البقاع إبراهيم ترشيشي.
ويضيف: "المزارع اللبناني والمُصدّر دفعا الثمن رغم عدم ضلوعهما فعليًا في عمليات التهريب".
ويتابع: "الشحنات التي تمّ توقيفها والتي كانت تتجه للسعودية لم يكن وراءها لبنانيون، بل سوريون"، مضيفًا: "لبنان كان مجرّد معبر"، مع الإشارة إلى أنّ بعض مخازن الممنوعات "موجودة منذ سنوات"، لكن "ما حصل هو أنّ العقوبة صبّت بالكامل على لبنان وعلى سمعته الزراعية".
وأوضح أن ثلاث نقاط جوهرية سبّبت الضرر الأكبر:
1. إلصاق صبغة تهريب المخدّرات بالمنتجات الزراعية اللبنانية، رغم أنها بريئة من ذلك.
2. الربح المالي ذهب إلى غير اللبنانيين، لكنّ لبنان هو من حُمِّل التبعات.
3. اعتماد بعض الدول على "السمعة والشبهة" لمقاطعة المنتجات، وهو أمر "غير عادل إطلاقًا".
وعن كلفة الأزمة، يلفت ترشيشي إلى أن "لبنان مُنع من التصدير إلى السعودية منذ أكثر من أربع سنوات"، ما حرم المزارعين من أهم سوق خارجية، ومن إمكانية العبور (الترانزيت) إلى باقي الدول الخليجية عبر الأراضي السعودية.
مضيفًا: "فقدنا أسواقنا لتصريف الحمضيات، التفاح، الإجاص، والخضار... بينما لجأت هذه الدول إلى مصادر بديلة".
أما من حيث الأرقام، فيكشف ترشيشي عن تراجع التصدير من نحو 600 ألف طن سنويًا إلى 250 ألف طن فقط، وهو ما يعني خسارة أكثر من نصف القدرة التصديرية للقطاع.
كما يشير إلى أنّ "المشاكل التي طرأت في قناة السويس وباب المندب أثّرت أيضًا على الصادرات البحرية، ما فاقم من الأزمة".
ويأسف ترشيشي لكون "كلّ المنتوجات التي نستوردها تدخل بشكل طبيعيّ، بينما يُمنع المزارع اللبناني من تصدير إنتاجه"، مضيفًا: "الدولة اللبنانية اليوم كتفها مكسور، ولا تمتلك قوّة تفاوضية حقيقية".
ويضيف: "اقترحنا حلًا وهو أن يتم تفريغ البضائع اللبنانية عند الحدود الأردنية لتُحمَّل في شاحنات سعودية، على أن تتم مراقبة كلّ الشحنات. لكن هذا الطرح رُفض، لأن تنفيذ الحلول لا يزال مرتبطًا بالشروط السياسية".
وفي ما يتعلّق بالإجراءات الحكومية، قال ترشيشي: "المطلوب تسهيل الطريق أمام المزارعين، ورفع كل العراقيل الإدارية واللوجستية، ومنها فتح مرفأ بيروت للعمل طوال أيام الأسبوع لتسريع عمليات التصدير".
وختم برسالة إلى السلطات اللبنانية والدول الخليجية قائلًا: "نريد للحقائق أن تنكشف، وننتظر من المسؤولين الجرأة في المواجهة وضبط كلّ الفوضى القائمة. نحن كمزارعين لا نبحث عن بدائل أو أسواق بديلة. نريد أن نستعيد علاقتنا مع السعودية وسائر دول الخليج، لأن هذه الأسواق عمرها أكثر من خمسين سنة، وهي ليست مجرّد تجارة، بل روابط عائلية وإنسانية".
لبنان مُطالب بإثبات أنه قادر على الوفاء بالتزاماته السيادية
في المقابل، يؤكد الخبير الجيوسياسي جورج أبو صعب أنّ ملف تهريب الكبتاغون أدّى دورًا أساسيًا في اتخاذ المملكة العربية السعودية إجراءات أمنية واقتصادية بحق لبنان، مشيرًا إلى أنّ "ما قامت به الرياض هو الحدّ الأدنى من حقها، في ظلّ غياب قدرة الدولة اللبنانية على ضبط حدودها أو منع استخدام أراضيها كممرّ للتهريب".
ويعتبر أنّ لبنان مطالب بإثبات أنه دولة حقيقية قادرة على ضبط سلاح "حزب اللّه" والوفاء بالتزاماتها السيادية، التي وردت في خطاب القسم.
ويشدّد أبو صعب على أن "الخليج لا يتخلّى عن لبنان، بل ينتظر منه إشارات جدية بأن الدولة استعادت دورها"، موضحًا أن "المطلوب ليس بيانات، بل أفعالًا تؤكّد أن القرار الأمني والعسكري والسياسي في يد الدولة اللبنانية وحدها".
ويكشف عن أنّ هناك 23 اتفاقية بين لبنان والسعودية لا تزال معلّقة بانتظار التوقيع، ما يدلّ على "وجود نية إيجابية بالتعاطي"، لكنها مرهونة بقدرة لبنان على تحديد قراره الوطني، وخاصة في القضايا كالسلم والحرب وضبط الحدود.
ويختم: "هذه ليست شروطًا خليجية فقط، بل مطالب لبنانية داخلية قبل أي طرف خارجي".
"استبشرنا خيرًا مع العهد الجديد لكنّ الواقع أصبح أكثر تعقيدًا"
من جهته، يسلّط رئيس نقابة الشحنات المبرّدة السابق، غسان علي عبد الغني، الضوء على معاناة القطاع بعد أزمة تهريب الكبتاغون وما تلاها من قرارات صارمة، مؤكدًا أن الخسائر كانت كارثية وأنّ الآمال التي علّقت على العهد الجديد لم تتحقق حتى الآن.
ويؤكد أنّ أزمة الشحن البري إلى دول الخليج بدأت بعد ضبط شحنة الكبتاغون داخل ثمار الرمان في نيسان العام 2021، قائلًا: "بعد هذا الحادث بشهر، أُقفلت الطريق بالكامل".
ويردف عبد الغني عن حجم الخسائر المادية التي تكبّدها العاملون في هذا القطاع، قائلًا: "كان مدخول الشخص الشهري ضخمًا، شخصيًا، كنت أملك 10 شاحنات مبرّدة، وكان مدخولي الشهري يتراوح بين 20 و 25 ألف دولار. اليوم لا يوجد أي دخل يُذكر، بالكاد نعمل لتأمين القوت اليومي. كثيرون اضطروا لبيع ممتلكاتهم، ومن كان يملك برّادًا أو ثلاثة باعها ولم يتمكّن من الاستمرار".
ويكشف عن مشكلة ثانية تواجههم وهي أن "الدولة لا تمنح لوحات للنقل الخارجي"، لافتًا إلى أنّ الردّ عليهم كان: "اشتروا لوحات حرّة"، موضحًا أنّ "تكلفة اللوحة الحرة اليوم تتراوح بين 25 و 30 ألف دولار".
أما عن البدائل، فيوضح: "الأسواق الأردنية والعراقية والسورية لا تزال مفتوحة، لكن المشكلة تبقى في مسألة اللوحات".
ويختتم عبد الغني حديثه برسالة واضحة إلى رئيسي الجمهورية والحكومة: "اعملوا على حلّ هذا الملف لأنه شريان اقتصادي حيوي، لا يقتصر على السائقين وحدهم، بل يطال المزارعين والتجار وكل القطاعات المرتبطة بالتصدير، فالخسائر تتفاقم يومًا بعد يوم".
أزمة النقل البري تكشف عمق الخلل في البنية الإدارية والتشريعية التي تتحكّم بمفاصل الاقتصاد، فبين وعود الانفتاح على الأسواق الخليجية وواقع الإغلاق الجزئي، يقف المزارع اللبناني والتاجر وسائق الشاحنة في الوسط. ورغم الاستثمارات الضخمة التي ضخّها البعض لشراء الشاحنات المستوفية للشروط، يبقى ملفّ التنمير الخارجي عقدة تعرقل كلّ المساعي.
سيدة نعمة - نداء الوطن