لبنان يتلمّس خطواته الأولى نحو اقتصادٍ أخضر ودائري

لبنان يتلمّس خطواته الأولى نحو اقتصادٍ أخضر ودائري -- Aug 18 , 2025 6

عاد النقاش في التحول نحو الاقتصاد الأخضر والدائري في لبنان إلى الواجهة، باعتباره رافعة حقيقية لإعادة بناء النمو الاقتصادي المستدام، وذلك بعد مؤتمر "التحول الأخضر" الذي استضافته طرابلس مؤخراً. فقد تجاوزت المساعي نطاق المبادرات الفردية، وتحولت باتجاه تعزيز القطاعات والمشروعات التنموية، والإنتاج الزراعي المستدام، ودعم المزارعين والمجتمعات المحلية والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة.


غير أن التحول الحقيقي يحتاج إلى أطر تشريعية ومؤسساتية، وبناء مسار حيوي يربط بين الاقتصاد الدائري والأخضر من خلال توفير مصادر ربحية مستدامة (مع الإشارة إلى أن المقصود بالاقتصاد الدائري، نظام إنتاج يهدف إلى إعادة التدوير وتقليل الهدر).

مسارٌ ربما سيمكّن لبنان في يومٍ من الأيام من الانتقال من معالجة النفايات إلى صناعتها بعد مرور 10 سنوات على انفجار أزمة النفايات، كما سيمكّنه من مواجهة التحديات البيئية والاقتصادية التي يفرضها التغير المناخي والنقص المتزايد في الموارد الطبيعية والمائية عبر التحول إلى نموذجٍ اقتصادي يراعي استدامة البيئة وكفاءة استهلاك الموارد، ويجعل من تحقيق القيمة البيئية والاجتماعية المستدامة أولوية توازي أهمية العوائد المالية، فالنمو الاقتصادي الحقيقي يقاس بقدرته على حماية الموارد الطبيعية، وتمكين المجتمعات وبالأخص المحلية منها، وتحقيق عدالة اجتماعية لا يُلغى أثرها في ميزان الأرباح.

من مبادرات مؤقتة إلى اقتصادٍ مستدام؟

في تصريح لـ"المدن"، أشار الوزير السابق الدكتور ناصر ياسين إلى أن "النقطة الأهم التي يتم التركيز عليها هي تحويل الأنشطة المرتبطة بالاقتصاد الدائري إلى أنشطة منتجة وقادرة على تحقيق عوائد، وألا تبقى رهينة المبادرات الاجتماعية والمساعدات والمشروعات المرتبطة بجهات مانحة". كما أشار إلى أن سياسات الدمج بين الاقتصاد الدائري والأخضر قد وُضِع إطارها العام، وشدّد على أهمية "الاستثمار في المحميات الطبيعية التي لا ينبغي أن تبقى مجرد أماكن طبيعية خلابة، بل يجب الجمع بين الحفاظ عليها واستخدامها لدعم الاقتصادات المحلية، سواء على مستوى السياحة أو الزراعة أو الزراعة الحرجية". وذلك لكي تتحقق الاستفادة المثلى من الموارد مع إدارة الغابات والمحميات بشكل يضمن أرباحًا مقبولة للمزارعين والسكان المحليين من جهة وعدم المساس بالنظم البيئية الطبيعية من جهة أخرى. وليس ضروريًا أن تكون الأرباح الناتجة عن هذه الأنشطة مرتفعة، لأن أثرها البيئي والاجتماعي له قيمة عالية، لكنها يجب أن تضمن حدًا معينًا من الأرباح لضمان استدامتها.

عمل ياسين أثناء توليه منصب وزير البيئة على إقامة مراكز فرز النفايات وتشجيع الفرز من المصدر، ودعم مبادرات رواد الأعمال الصغار والشركات الناشئة والبلديات التي عملت في قطاع المفروزات، وكان الهدف هو تحويل هذا القطاع إلى قطاعٍ مربح، حيث قال: "كنا نواكب هذه المبادرات في الوزارة على مستوى الموافقات والتشجيع، ومن ناحية تنفيذ المراسيم التطبيقية لقانون النفايات، مثل المرسوم الذي يعزز دور البلديات في إقامة مراكز محلية لجمع المفروزات، بالإضافة إلى تسهيل التعاون بين البلديات والقطاع الخاص الناشئ في مجال فرز النفايات. كما عملنا مع "اتحاد إدارة تحويل النفايات" (Waste Diversion Management Consortium) الذي أسسته عدة شركات ناشئة متخصصة في قطاع إدارة النفايات".

أما منسقة المشاريع في مؤسسة BIAT نيرمين المنلا، فأكّدت لـ"المدن" أن BIAT "تلعب دورًا محوريًا في دعم التحول نحو الاقتصاد الدائري والأخضر من خلال برامجها المتعددة التي تركز على الاستدامة، الابتكار، وتمكين رواد الأعمال في القطاعات الحيوية مثل الزراعة، الطاقة المتجددة، والصناعات التحويلية". وذلك من خلال تنفيذ أكثر من 80 مشروعًا تنمويًا عبر لبنان، وتقديم الدعم لأكثر من 8000 رائد أعمال ومؤسسة صغيرة ومتوسطة، وتعزيز نماذج أعمال تراعي المعايير البيئية والاجتماعية. وأضافت المنلا أن "BIAT تعمل ضمن تحالفات مع منظمات دولية ومحلية مثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والمؤسسة الألمانية للتعاون الدولي، والاتحاد الأوروبي، والوزارات المعنية، لتسهيل إدماج مبادئ الاقتصاد الدائري ضمن خطط التنمية المحلية". وتشمل المبادرات دعم سلاسل القيمة الزراعية المستدامة (Agri Agro 360) والترويج للحلول الرقمية والذكاء الاصطناعي في تحسين كفاءة الموارد لخلق بيئة مواتية لتطبيق مبادئ الاقتصاد الدائري.
 

المحميات الطبيعية في قلب الاقتصاد الأخضر

يعتبر ياسين أن الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بالمحميات الطبيعية والغابات كانت ركيزة أساسية لانطلاق مشروع الاقتصاد الأخضر في لبنان، وبدأت ملامح هذا المشروع بالتبلور عبر التعاون المشترك بين وزارتي البيئة والزراعة السابقتين، وبعد سلسلة من المبادرات العالمية والإقليمية وبعض المؤتمرات لشرح وتعميق المعرفة حول الاقتصاد الأخضر. 

وفي هذا السياق، يؤكد ياسين على أهمية "ربط الاقتصاد الأخضر بجميع ممارسات ومبادئ الاستدامة، من إدارة الموارد الطبيعية والمياه واستخدام الأراضي والزراعة البيئية"، ويشير إلى أن "المحميات الطبيعية قد شكلت تمركزًا جغرافيًا للاقتصاد الأخضر، وكان لها دور اقتصادي في جميع الأنشطة المتعلقة بالسياحة البيئية وساهمت في خلق فرص عمل، وهنا حصل التعاون أيضًا بين وزارتي البيئة والسياحة السابقتين لتنفيذ استراتيجية للسياحة البيئية، وتم التركيز على المحميات الأكثر عراقة مثل محميات أرز الشوف وإهدن وعمّيق، إلى جانب المحميات البحرية لتشجيع ممارسات الصيد المستدام في مناطق صور وطرابلس ومحمية جزر النخيل".

برأي ياسين، فإن "السياحة البيئية أصبحت معالمها واضحة، ولها مردود جيد في المناطق، سواء المسارات السياحية أو الأدلاء السياحيين أو بيوت الضيافة المحلية أو معارض المأكولات والمونة البيتية". لكنه يشدد على أن الزراعة البيئية هي الركيزة الأساسية لأي اقتصادٍ أخضر ومستدام، والتي يجب العمل على تعزيزها، وهي لا تزال في مراحلها الأولية في لبنان. ويشير إلى أن "تكلفة الإنتاج المرتفعة جدًا وعدم توفر الجدوى الاقتصادية لدى المزارعين هي العائق الأساسي أمام تطور الزراعة البيئية. يضاف إلى ذلك تحدٍ آخر يتعلق بعدم قدرة المزارعين على التسويق لمنتجاتهم العضوية من جهة، وعدم وجود جهات قادرة على التأكد من عضوية هذه المنتجات وعدم تعرضها للأسمدة الكيميائية والمبيدات الاصطناعية من جهة أخرى".
 

مبادرات وتحديات ومطالب

وفي إطار تعزيز الاقتصاد المستدام، تشير المنلا إلى عدة مبادرات أطلقتها مؤسسة BIAT، من أهمها Agri Agro 360 كبرنامج يهدف إلى تعزيز سلسلة القيمة الزراعية المستدامة من خلال دعم البحث والتطوير، الجاهزية التصديرية، والتغليف البيئي، وذلك بالتعاون مع غرفة التجارة والزراعة في الشمال. وتطوير منصة YARD الرقمية التي تمكّن رواد الأعمال من تطوير أفكار أعمال مستدامة وتقدّم إرشادًا رقميًا قائمًا على الذكاء الاصطناعي، مما يساهم في تقليل الأثر البيئي من خلال التحول الرقمي وخفض استخدام الموارد التقليدية. ومشاريع دعم القطاع الصناعي التحويلي، مثل الصناعات الغذائية والخشبية، مع تركيز على الابتكار في التصميم والإنتاج لتقليل الهدر وزيادة إعادة الاستخدام. إضافة إلى ورش عمل ومبادرات توعوية لدعم الاقتصاد الأخضر تستهدف الشباب والنساء بشكل خاص، ضمن أهداف التنمية المستدامة.

كما عبّرت المنلا عن وجود عوائق تحول دون التقدم نحو تحقيق الأهداف بالشكل المطلوب، وتتمثل أبرزها في ضعف الإطار التشريعي والتنظيمي الذي يحفّز الاقتصاد الدائري، ونقص التمويل المخصص للمشاريع الخضراء، خاصةً في المناطق الطرفية، وغياب الوعي المجتمعي والمهني بمفاهيم الاقتصاد الأخضر والدائري، وقصور في البنية التحتية الداعمة لإعادة التدوير وإدارة الموارد المستدامة. وأشارت إلى أن مطالب 


BIAT للسلطات المركزية تتركز على تطوير سياسات وحوافز مالية مثل الإعفاءات الضريبية أو التمويل الميسر لتشجيع الشركات على اعتماد نماذج أعمال دائرية، ودمج الاقتصاد الأخضر في المناهج التعليمية والمراكز المهنية، ودعم شبكات الأعمال الخضراء خصوصًا في المناطق الريفية، وتحسين الشراكة مع منظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص لتنفيذ حلول ملموسة.

 

دور السلطات المركزية والمحلية

من جهته، أكد ياسين أن "التعاون بين وزارتي البيئة والزراعة في مجال الاقتصاد الأخضر والدائري وصل إلى مراحل متقدمة، لكن وزارة الاقتصاد ما زالت متأخرة ولم تقم بتبني هذا النهج بعد". أما على صعيد السلطات المحلية، فقال "هناك نماذج جيدة، وربما تتعلق باعتماد المجتمعات المحلية على السياحة المحلية والريفية والبيئية، لكن معظم البلديات لا تزال تواجه تحديات كبيرة على مستوى الخدمات والقدرة العملية على التحول باتجاه الاقتصاد الأخضر". أما فيما يتعلق بالاقتصاد الدائري، فيشير ياسين إلى أن "بعض البلديات المتوسطة تمكنت من تحقيق نجاحات كبيرة على مستوى عمليات الفرز وتحويلها إلى عمليات منتجة تنتج عائدًا اقتصاديًا كافيًا للاستمرار، حتى لو لم يكن وفيرًا".

كما أكد أن "وزارة الزراعة الحالية تستكمل العمل في اتجاه الانتقال إلى الاقتصاد الأخضر، حيث يأتي وزير الزراعة الحالي الدكتور نزار هاني من خلفية تتصل بإدارة المحميات الطبيعية". وأشار 


في هذا السياق إلى قرض البنك الدولي لتمويل مشروع التحوّل الأخضر في قطاع الأغذية الزراعية من أجل التعافي الاقتصادي (Gate) الذي وافق عليه مجلس النواب في أول شهر تموز/يوليو 2025، وقيمته 200 مليون دولار أميركي.

فيما يتعلق بهذا القرض، فقد أكّد وزير الزراعة نزار هاني في كلمته الصادرة عن بيانٍ وزارة الزراعة أن التعاون لتنفيذ المشروع تتولاه "لجنة إشراف مشتركة تضم وزارة الزراعة، ووزارة البيئة، ووزارة الاقتصاد، ووزارة الطاقة والمياه، وتشارك فيها كل من وزارة الصناعة ووزارة السياحة ومجلس الإنماء والإعمار، بهدف ضمان التنسيق القطاعي الكامل والرقابة الشاملة على التنفيذ". وحدّد البيان تفاصيل القرض المالية، والمكونات الأساسية للمشروع والجهات المستفيدة منه، ومن ضمنها 80 ألف مزارع سيستفيدون من الإرشاد الرقمي، و15 ألف مزارع سيتلقون تدريبًا متخصصًا، إضافة إلى منح مباشرة لمئات المزارعين وتمويل ميسّر لمئات المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وتحسين شبكات الري وتنفيذ شبكات ري جماعية وتوفير 2200 فرصة عمل جديدة، وإنشاء عشرات البرك الجبلية وزيادة القدرة التخزينية للمياه وتأهيل الطرق الزراعية وتعزيز القدرات الزراعية لـ 110 بلديات.

المصدر: المدن
الكاتب: هاني عضاضة

أقرأ أيضاَ

مرفأ بيروت... نموّ في واردات الحاويات والنقل البحري

أقرأ أيضاَ

"Shark Tank" بالنسخة اللبنانية قريبًا… استثمارات ضخمة لدعم المشاريع الناشئة