الكهرباء من المولّدات إلى الـPPP بداية من 250 مليون دولار

الكهرباء من المولّدات إلى الـPPP بداية من 250 مليون دولار -- Oct 22 , 2025 56

يواجه لبنان أزمة مرافق مركّبة: كهرباء متقطّعة تُغذّيها شبكة منهكة واعتماد واسع على مولدات خاصة، مياه متذبذبة، وإنترنت ضعيف البُنية. في خريف 2025 تتقاطع تطوّرات حاسمة (تمويل دولي، مبادرات تقنية، وأفكار شراكة مع القطاع الخاص) مع معوّقات سياسية واجتماعية، قد تقوّض أي مقاربة سريعة إذا لم تُصاحبها إصلاحات حَوكمة واضحة.

قبل الانهيار الاقتصادي والمالي كانت خدمة الكهرباء في لبنان متذبذبة، لكن ما تلاها أدّى إلى تفاقم الأزمة لدرجات غير مسبوقة: ارتفاع أسعار الوقود، نُدرة العملة الأجنبية، تلاشي نظم الصيانة، وانقطاع دعم الاستيراد. بالتالي، لم تعُد محطات الدولة قادرة على تغطية الطلب، ما دفع المواطنين والمؤسسات إلى الاعتماد الواسع على سوق المولدات الخاصة الذي تطوّر إلى «اقتصاد منظّم» يُولّد أرباحاً ويمتلك شبكات مصالح محلية، بالإضافة إلى ألواح الطاقة الشمسية. وفصّل تقرير البنك الدولي حول التوليد الموزّع (2020) هذه البنية، وعرض مسارات سياسة ممكنة للتحوّل إلى توليد موزّع بدل الاعتماد على الوقود.

الأدلّة الميدانية تُظهر أنّ فترات التزويد الرسمية متقلّبة: بعض المناطق تسجّل أحياناً متوسطات تشغيل يومية لا تزيد عن 6 إلى 12 ساعة في أفضل الأحوال، وأخرى قد تُسجل انقطاعات حادّة. الواقع بلغ ذروته حين سجّل لبنان انقطاعاً كهربائياً وطنياً ناجماً عن نفاد الوقود في محطات التوليد. لكنّ الدعم المالي الدولي الأخير (قرض البنك الدولي بقيمة 250 مليون دولار) يُعَدُّ مؤشراً لإمكان تحرّك تمويلي، لكنّه ليس حلاً شاملاً.

تُشير بيانات البنك الدولي إلى أنّ القرض ليس مجرّد تمويل موقت، بل يُمثّل بداية تنفيذ إستراتيجية أوسع لإعادة هيكلة «مؤسسة كهرباء لبنان». وتشمل الخطة إدخال نظام إدارة إلكتروني مركزي للمحطات، وتحديث العدادات في 12 قضاء، ورفع الجباية من 38% إلى أكثر من 70% خلال عامَين. وتُقدَّر العوائد المتوقعة من تحسين التحصيل وحده بأكثر من 180 مليون دولار سنوياً، إذا طُبِّقت آليات المراقبة الرقمية كما هو مخطّط.

لماذا الشراكة مع القطاع الخاص؟ منطق المال والتقنية

نقطة الانطلاق المنطقية للشراكات (PPPs وPPA وConcessions) هي أنّ الخزينة العامة غير قادرة وحدها على تمويل الانتقال الطاقي السريع أو تحديث الشبكة. القطاع الخاص يوفّر رأس المال وخبرات التنفيذ والتشغيل السريعة، بينما تقنيات الطاقة المتجدّدة (الشمسية والبطاريات) أصبحت منافِسة اقتصادياً.

كما أنّ تقرير المعهد اللبناني للطاقة المتجددة (LRI، آب 2025) يؤكّد أنّ الانتشار المتسارع للأنظمة الشمسية الصغيرة (off-grid) خلق نحو 6 آلاف وظيفة مباشرة و12 ألف وظيفة غير مباشرة خلال عام 2024 فقط، خصوصاً في البقاع والجنوب. ويُقدّر أن يبلغ الاستثمار الكلي في الطاقة الشمسية اللامركزية أكثر من 1,2 مليار دولار بنهاية 2025، ما يجعلها ثاني أكبر قطاع استثماري بعد الاتصالات في الاقتصاد اللبناني الجديد.

وبحسب دراسة علمية (لـ4 باحثين وعلماء لبنانيِّين وصينيَّين) لتقييم إمكانات أسطح المباني في لبنان، تبيّن أنّ الإمكان الكلّي للأسطح يقدّر بحوالى 28,1 تيراواط-ساعة سنوياً، أي ما يقارب ضعف الاستهلاك الوطني في 2019، ما يضع فرضية إمكانية تغطية الاحتياج الوطني عبر نشر سطحي واسع وموزّع إذا توافرت السياسات المناسبة.

 

نماذج التمويل والتنفيذ التي تُطرح عملياً تشمل:

 

- اتفاقات شراء الطاقة (PPA): مستثمر يبني محطّة (شمس/رياح) ويَبيع الكهرباء بسعر محدّد لمدة عقد (مثلاً 10-20 سنة).

- منح حقوق التشغيل (Concession/RSC): مستثمر يموّل، يرمّم، ويشغّل لمدة متفق عليها ثم يعود الأصل للدولة.

- شمس موزّعة وصافي القياس (net-metering): أسطح المباني تُصبح محطات للكهرباء، والمستهلك يُصبِح «منتِجاً» (prosumer) يوفّر فائض الإنتاج.

قرض البنك الدولي المذكور يُستخدم جزئياً لتحسين جمع الفواتير ودعم مشاريع شمسية، ويُقدَّر أنّ بعض هذه التدخّلات قد تُوفّر حوالى 40 مليون دولار سنوياً من تكاليف الوقود إذا نُفِّذت بفاعلية.

أثر الاستثمار زمنياً

تقارير فنية تَصِفُ المسار الزمني لتأثير الاستثمارات على ساعات الكهرباء اليومية:

- الحالة الحالية (خريف 2025، قبل التدخّل): متوسطة قد يتراوح بين 6-12 ساعة/يوم في مناطق، وأقل من ذلك في مناطق أخرى؛ اعتماد كبير على مولدات خاصة.

- التحرّك الفوري (0-12 شهراً): نشر وحدات شمسية وبطاريات للمرافق الحيوية (مستشفيات، محطات مياه، مراكز اتصالات) مدعومة بصندوق طوارئ أو نافذة تمويلية، يُنتِج زيادة مُتوقعة بمقدار 2-4 ساعات/يوم في المناطق المستفيدة الأولى.

- المرحلة المتوسطة (1–3 سنوات): دخول مشاريع PPA موزّعة وتوسيع برامج rooftop مع تحديثات جزئية للشبكة وعدّادات ذكية، تؤدّي إلى زيادة إجمالية مُحتملة 6-10 ساعات/يوم لمدن عديدة، وبلوغ نطاق 12–16 ساعة/يوم في مراكز حضرية متقدّمة.

 

الماء والإنترنت: شريكان لا يفترقان عن الكهرباء

التمويل الدولي لا يقتصر على الكهرباء: ففي 15 كانون الثاني 2025 وافق البنك الدولي على تمويل بقيمة 257,8 مليون دولار لتحسين تزويد المياه في منطقة بيروت والمتن والجبال (Second Greater Beirut Water Supply Project)، بهدف إكمال بنى تحتية أساسية، تحسين جودة المياه، والحدّ من الاعتماد على مصادر مياه خاصة مكلفة. هذا المبلغ يستهدف حوالى 1,8 مليون من سكان منطقة الخدمة وفق بيانات المشروع.

ويُشير تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP، حزيران 2025) إلى أنّ أكثر من 60% من محطات ضخّ المياه في لبنان تعمل اليوم على مولّدات خاصة، وأنّ دمج الطاقة الشمسية في 120 محطة فقط من أصل 300 سيُوفّر نحو 20 مليون دولار من كلفة الوقود سنوياً ويقلّص انبعاثات الكربون بنسبة 12%. المشروع التجريبي في المتن الأعلى أثبت نجاحاً بنسبة 94% في الاستمرارية التشغيلية مقارنةً بـ68% سابقاً.

في قطاع الاتصالات، فتح سوق الإنترنت الفضائي يظهر كخيار تكميلي: خطوات لترخيص خدمات مثل Starlink جرت فعلياً، ما قد يُوفّر حلاً سريعاً لجودة الربط في مناطق تعاني بنية تحتية برّية مهترئة.

 

بعد توقيع الاتفاق، دخل لبنان فعلياً مرحلة الإنترنت الفضائي التجريبي في 10 بلدات حدودية. وتشير التقديرات الرسمية إلى أنّ هذا الخيار سيُخفّض كلفة الربط في المناطق النائية بنسبة 35%، لكنّه يُثير أيضاً مخاوف أمنية تتعلّق بالسيادة الرقمية وحرّية تدفّق البيانات، وفق تحليل مجلة Le Commerce du Levant (آب 2025).

 

وتُقدّر منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) أنّ إصلاح قطاع الكهرباء وحده يمكن أن يزيد الناتج المحلي اللبناني بنسبة 1,8% سنوياً بين 2025 و2030، إذا نُفِّذَ برنامج الشراكات وفق الجدول الزمني. فهذا النمو، على رغم من تواضعه، يُعتبر كافياً لتوليد فائض مالي يسمح بتمويل تحسين شبكات المياه والاتصالات، ما يعني أنّ الكهرباء هي المدخل لكل إصلاح هيكلي لاحق.

 

المال والتقنية ليسا الحل النهائي

 

لكنّ المال والتقنية لا يكفيان؛ إذ إنّ التحوّل يستدعي حَوكمة قوية وشفافية كاملة. ففي لبنان، توزيع المنافع يرتبط بتوازنات طائفية وسياسية: عقود، أراضٍ، كيانات تشغيل وتوزيع وجباية، كلها تُقرأ سياسياً. حتى مع وجود هيئة ناظمة مستقلة ونتيجة غياب قوانين نفاذ للمعلومات، تتولّد مخاطر كبيرة للفساد والمحاصصة. وتؤكّد التقارير أنّ أي نموذج PPP قد ينجح تقنياً لكنّه يفشل سياسياً إن لم يُصمَّم إطار رقابي مستقل وواضح.

 

الجانب الاجتماعي يفرض أزمتَي عدالة وتوزيع: السوق وحدها ستميل إلى خدمة مَن يملك القدرة على الدفع أو الوصول إلى الأسطح المناسبة، أي القطاعات التجارية والمجتمعات ذات الدخل الأعلى. بينما تبقى الفئات الهشّة معتمدةً على مولدات ذات كلفة أعلى وصحية وبيئية أسوأ. لذلك، أي حزمة شراكة يجب أن تتضمّن آليات دعم مستهدفة (Vouchers، قروض ميسّرة، برامج اشتراك مجتمعية) لضمان وصول الخدمات الأساسية إلى الفئات الأكثر حاجة.

 

كما أنّ المشروع يقف على أعتاب بعض المخاطر غير التقنية، وأبرزها التعرّض السياسي والأمني، خصوصاً أنّ ذلك سيُجفّف مصادر دخل «كارتيلات النفط والمولّدات». علاوةً على ذلك يتطلّب الأمر عملاً هائلاً في تحديث خطوط النقل والمحطات والتحكّم (SCADA) لألّا ينتج منه فقدان طاقي مرتفع وإمكانية فشل تشغيلي.

 

ويُظهر تقرير مجموعة «ترايد إنسايت» الاقتصادية (تموز 2025) أنّ كارتيل المولّدات الذي يضمّ أكثر من 3200 مشغّل خاص ما زال يحقق أرباحاً سنوية تقدّر بـ900 مليون دولار، أي ما يعادل 3,5% من الناتج المحلي. ومع تزايد مشاريع الشراكة، بدأت تظهر عمليات ضغط سياسي على البلديات لعرقلة تركيب الألواح الشمسية أو تأخير تراخيص مشاريع PPP، في محاولة للحفاظ على النفوذ المالي للمولّدين.

 

وبحسب تقرير مركز الدراسات الإستراتيجية للشرق الأوسط (MESC) في أيلول 2025، فإنّ 40% من محطات النقل والتحويل في لبنان تعمل حالياً من دون نظام مراقبة SCADA فعّال، ما يجعلها عرضة لهجمات إلكترونية وتعطيلات ميدانية. ويوصي التقرير بإنشاء مركز وطني للسيطرة على الشبكات بإشراف مباشر من الجيش اللبناني لتأمين البنية الحيَوية ضدّ الاختراقات.

 

وعلى المستوى القانوني، لا يزال قانون المنافسة وتأطير عمل الهيئات الناظمة، الضامن الأساس لمنع خلق خطر احتكار جديد وغياب المنافسة الحقيقية.

 

منذ أيام قليلة وصف تقرير Foreign Policy Energy Review، لبنان بأنّه «مختبر طاقة مفتوح في شرق المتوسط»، إذ تتقاطع فيه مبادرات البنك الدولي، وتمويل الاتحاد الأوروبي، واستثمارات خليجية ناشئة، مع نماذج تمويل مجتمعية صغيرة. ويقترح التقرير أنّ نجاح التجربة اللبنانية في اللامركزية الكهربائية قد يجعلها نموذجاً مكرّراً في دول مثل الأردن وقبرص وربما شمال سوريا مستقبلاً.

 

الجمهورية - شربل البيسري

أقرأ أيضاَ

أبي رميا يقترح رسمًا ماليًا لدعم المؤسسة العامة للإسكان

أقرأ أيضاَ

"مخاوف من الجفاف".. وزير الزراعة: نأمل ان تكون الامطار كافية هذا العام