لبنان الأعلى كلفة معيشة والأدنى دخلاً -- Nov 05 , 2025 13
كتب العميد الدكتور غازي محمود :
يُشكل ارتفاع تكاليف المعيشة وغلاء أسعار السلع لا سيما منها الاستهلاكية، تحدّيات متجددة للعديد من الدول حول العالم. إلا أن التحديات التي يواجهها لبنان هي مضاعفة عن غيره من هذه الدول، حيث يترافق الغلاء مع انهيار حاد في القوة الشرائية لذوي الدخل المحدود في ظلّ اقتصادٍ مدولر ويعتمد على الاستيراد. ومنذ اندلاع الأزمة المالية والاقتصادية في خريف عام 2019، يعيش اللبنانيون تحت وطأة معادلة بسيطة وقاسية في آن، تطرح السؤال حول كيفية تحمّل كلفة العيش في بلدٍ يقترب في أسعاره من الدول الغنية، بينما يتقلص الدخل فيه إلى مستوياتٍ أقرب إلى الدول الأفقر في المنطقة.
في المقابل، يواجه اللبنانيون واقعاً معيشياً يزداد تعقيداً في ظلّ غياب سياسة واضحة لربط الأجور بمعدّلات التضخّم، وتعثّر الإصلاح الضريبي الشامل الذي يُفترض أن يحقّق عدالة بين الفئات الاجتماعية ويعيد توزيع الأعباء بما يتناسب مع قدرة كلٍ منها على الدفع. الامر الذي يُبقى لبنانَ بلداً مرتفع الكلفة ومتدنّي الدخل، يعيش تناقضاً مستمراً بين الأسعار والدخول، وبين الطموحات والإمكانات.
غلاء فاحش ومتوسط دخل متدني
يحتلّ لبنان مرتبةً متقدّمة على سلّم غلاء المعيشة عالمياً، مع مؤشر كلفة معيشة يقارب الـ 40.5 نقطة، وضعته في المرتبة السبعين عالمياً منتصف العام 2025، بحسب مؤشرات موقع Numbeo العالمي، ومتقدّماً على دول عربية تتمتع باقتصاد أكبر وأكثر استقراراً. وقد حلت بيروت في المرتبة السادسة بين مدن الشرق الأوسط، والـ 168 عالمياً من حيث غلاء المعيشة، بحسب المؤشّر عينه.
وعلى مستوى الدخل الفردي، يبلغ متوسط الدخل المتاح للفرد، وفق موقع Numbeo العالمي، نحو 6144 دولار سنوياً في 2025، أي ما يُقارب الحد الأدنى للأجور قبل الأزمة. فيما تبلغ تكلفة "سلة غذاء للبقاء" لعائلة مكوّنة من خمسة أفراد، حوالي 44.2 مليون ليرة لبنانية أو ما يعادل نحو 492 دولاراً، وفق بيانات برنامج الأغذية العالمي (WFP) نهاية أيار 2025، وبزيادة بلغت نحو 8.2% منذ بداية العام.
الأردن، أسعار أدنى ورواتب أعلى
في المقابل تُظهر مقارنة كلفة المعيشة الإجمالية بين لبنان والأردن أن الأخير أرخص بنحو 18%، مع فارق أكبر في الإيجارات، حيث الإيجارات في لبنان أعلى بنحو الثلثين مما هي عليه في الأردن. ويعيش الأردني وإن كان دخله محدوداً، في بيئةٍ كلفة المعيشة فيها متناسبة مع دخله، وتتسم باستقرار من حيث ثبات قيمة العملة والقوة الشرائية بالمقارنة مع نظيره اللبناني.
أما الحد الأدنى للأجور في الأردن فيبلغ قُرابة الـ 260 ديناراً (حوالي 360 دولاراً)، مع هيكل رواتب أكثر استقراراً وأبطأ تضخّماً (التضخّم قرابة 1٪ فقط). فيما يقدّر متوسط الدخل السنوي بحوالي 19 ألف دينار، أي نحو 1,500 دينار شهرياً أو ما يزيد بالدولار الاميركي عن 2100$، ما يعني دخلاً شهرياً يفوق ضعف نظيره في لبنان لمعظم الفئات المتوسطة.
مصر، كلفة المعيشة أدنى بكثير
أما في مصر، فتقل كلفة المعيشة من 60 الى 65% عن كلفة المعيشة في لبنان، على الرغم من التضخّم المرتفع وتدهور سعر صرف الجنيه. فمتوسط الراتب الشهري في مصر يبلغ حوالى 14,000 جنيه مصري، أي قرابة 280 دولاراً شهرياً، مع حدّ أدنى للأجور في القطاع العام والخاص يدور حول 7,000 جنيه.
إلا أن كلفة الحياة اليومية في مصر، من سكن إلى غذاء، هي أدنى بكثير مما هي عليه في لبنان، سيما وأن معادلة الدخل/الأسعار تمنح الدخل قدرة شرائية تسمح للمصري تلبية هذه الكلفة بعناءٍ اقل مما يُعانيه اللبناني لتلبية حاجاته المماثلة.
الخليج تناسب الأسعار مع المداخيل
في دول الخليج، تتصدّر بعض المدن قائمة المدن الأغلى عربياً في كلفة المعيشة، ولا سيما الإمارات والسعودية، وقد حلت الإمارات في المرتبة الأولى عربياً من حيث غلاء المعيشة وفق مؤشر 2025، مع مؤشر يفوق الـ 54 نقطة. وإذا كانت كلفة السكن والترفيه والمعيشة عامةً في دبي أو الدوحة مرتفعة، إلا أن مستوى الدخل هناك هو ايضاً مرتفع بعدة أضعاف.
وإذا ما قارنَّ تكاليف وجبة غداء أو إقامة فندقية بين بيروت ودبي، نجد أن التكاليف متقاربة والفارق ضئيل في غالب الاحيان، إلا أن ذلك لا يعني أن الأسعار في دبي أغلى مما هي عليه في بيروت. فالمقارنة يجب ان تتم وفق معادلة الدخل مقابل الكلفة، حيث تُشكل الكلفة نسبة مئوية من الدخل، وبالتالي كلما ارتفع دخل الفرد تدنت نسبة الكلفة بالنسبة اليه وإن تساوى السعر. وهذه المقارنة تصح على باقي دول الخليج وكذلك على الأردن ومصر.
بين أزمات المعيشة وفرص النهوض
وما يزيد أزمة لبنان الاقتصادية تعقيداً، يكمن في ارتفاع كلفة المعيشة بشكلٍ لا يتناسب مع القدرة الشرائية لمواطنيه. فالأسعار تعادل نظيرتها في الدول ذات المداخيل المرتفعة، فيما مستوى الأجور متدني مع خدمات عامة، من مياه الشفة والكهرباء إلى الصحة والتعليم متهالكة.
وما يُعانيه لبنان من غلاء وارتفاع أسعار ليس أزمة عابرة أو مؤقتة، بل هي أزمة بنيويّة عميقة، تتجاوز حدود التضخم العالمي، وترتبط بشكل مُباشر بوجود احتكارات تعيق أيّ تحسّن اقتصادي فعلي، وغياب الإصلاحات الهيكليّة والضعف الكبير الذي تعاني منه الادارات العامة المعنية بمراقبة الأسعار وحماية المستهلك.
والمطلوب اليوم ليس مجرّد حلول ظرفية، بل وضع استراتيجية وطنية شاملة تربط الرواتب والأجور بمؤشر غلاء المعيشة من ناحية، والعمل على تحسين مستوى الخدمات وديمومتها، بالإضافة الى ضبط الأسواق ومكافحة الاحتكار من ناحية ثانية، عبر تفعيل أجهزة الرقابة ومنحها صلاحيات تنفيذية، للحد من فوضى التسعير وجشع التجار. فالأولى تحقق الاستقرار المعيشي للبنانيين وتمكنهم من مواجهة تحدياتهم اليومية، أما الثانية فتجعل لبنان مجدداً مقصداً للسياح وتُعيد للاقتصاد اللبناني بعضاً من حيويته.