دولرة رسمية غير معلنة في سوريا… هل فقدت الليرة سيادتها؟

دولرة رسمية غير معلنة في سوريا… هل فقدت الليرة سيادتها؟ -- Nov 07 , 2025 13

لا تنتهج الحكومة السورية خطاً محدداً في عملة التداول خلال تعاملاتها الرسمية وشبه الرسمية. فالدولار يتغلب على الليرة السورية في تعاملات كثيرة، بينها سداد رواتب "البيروقراطية الجديدة" وجباية بعض الفواتير وتسعير قسم من المخالفات. أما الليرة السورية فتبقى عملة التداول الرسمية شكلاً لا فعلاً، لأن كل شيء في سوريا الجديدة يُسعّر بالدولار، بدءاً من الدولرة غير المعلنة التي كانت سمة اقتصاد الحرب، وصولاً إلى دخول البلاد مرحلة جديدة تقوم على دولرة رسمية معلنة منذ سقوط النظام، وهو الأمر الذي يؤثر سلبياً على العملة الوطنية وقيمتها في السوق.

دولرة معلنة وغير معلنة

رصدت "المدن" حزمة من الدولرة الرسمية للغرامات وإيصالات القبض والمناقصات التي يُعتمَد الدولار فيها عوضاً عن الليرة سواء على نحوٍ إجباري أو اختياري. وأبرز هذه القرارات كان التعميم الذي أصدره مدير التنمية الإدارية هادي الأحمد، بالتفويض عن محافظ دمشق مروان إدلبي، بمنع التدخين في المكاتب والممرات، إضافة إلى أي مكان تابع لمديريات القطاع البلدي والأمانة العامة والخدمات الفنية، تحت طائلة الحبس والغرامة.

وحدد القرار غرامة لا تقل عن 100 دولار ولا تزيد عن 200 دولار، في حال التدخين في أحد الأماكن العامة المحظور التدخين فيها، فضلًا عن غرامة تتراوح بين 1000 دولار و3000 في حال سماح المسؤول عن المكان العام المحظور لأي شخص بالتدخين، وفي حال عدم الإعلان عن منع التدخين في المكان العام المستهدف بالقرار.

وفي إجراء حكومي آخر، حدّدت وزارة الطاقة قيمة التأمينات الأولية المتعلقة بمناقصة توريد 6 مليون عداد ذكي، بالدولار أو ما يعادله. ونلاحظ الإجراء عينه في مناقصة أخرى حول توريد الغاز المنزلي. فقد حُدّدت طريقة الدفع بالدولار بموجب شيك مُصدّق. أما بخصوص الرواتب، فتسلّم الحكومة قسماً كبيراً منها بالدولار عبر تطبيق "شام كاش" الذي تأسس سابقاً في إدلب، وجرى افتتاح مقر رئيس له وسط دمشق.

هل الدولرة مخالِفة للقانون؟

تداول الدولار كان ممنوعاً في القوانين السورية التي سقطت مع الإعلان الدستوري الجديد في سوريا. وأبرز تلك القوانين التي كانت الناظمة لمجال التداول هو المرسوم رقم "3" للعام 2020 الذي فرض عقوبة السجن ودفع غرامة مالية للمتعاملين بغير الليرة السورية، وهو مرسوم جاء معدِّلاً للمادة الثانية من المرسوم التشريعي رقم "54" للعام 2013، الذي كان يعاقب المتعامل بغير الليرة بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات ويغرّمه مبالغ طائلة.

لم تصدر قوانين أو مراسيم جديدة ناظمة لعمليات التداول بديلة عن تلك التي سقطت مع النظام السابق. ولكن واقع الانفتاح المالي الذي كرّسته السلطات الجديدة في سوريا فرض نفسه، وفتح الباب أمام التعامل بالدولار إلى جانب العملة الوطنية في الكثير من التعاملات.

المحامي والمستشار القانوني، غزوان قرنفل قال لـِ "المدن"، إنّ جباية الغرامات والإلزامات المالية بغير العملة الوطنية يعتبر شكلاً من أشكال الاعتداء على مفهوم السيادة، باعتبار أن العملة الوطنية هي إحدى الرموز السيادية، مشيراً إلى أنه من المؤسف أن من ينتهكها هو السلطة المنوط بها حماية السيادة الوطنية.

ومع أنه يشير إلى أنه لا يجوز لدولة تحترم نفسها وسيادتها أن تتعامل بعملة غير عملتها الوطنية. لكنه يلمح إلى ضرورة تعديل القانون المجرِّم للتعامل بغير الليرة، لجهة حيازة العملات الأجنبية وتداولها، لأن القوانين السابقة لا تزال قائمة، وليس هناك قوانين جديدة لاغية لها.

تحفيز الطلب على الدولار يضعف الليرة

الجانب القانوني في القضية لا يعدّ مشكلة، نظراً إلى انتهاج العهد الجديد مساراً مختلفاً يسمح بحريّة التداول. التأثيرات الأكبر لعملية الدولرة المعلنة هي الأهم، لأنها تُفقِد الليرة السورية قيمتها، وتُحفّز الطلب على الدولار، خصوصاً أنّ الحكومة السورية لم تُقدِم حتّى الآن على تنظيم السوق المالية، وبينها شبكة واسعة من شركات الصرافة يُنظر إليها كسوق موازية تتعامل بمختلف العملات، وأهمها الدولار واليورو، بأريحية تامة.

من هذا المنطلق، يلاحظ الباحث ومدير منصة "اقتصادي" يونس الكريم وجود تداعيات عديدة لهذا الإجراء المنتشر على نحوٍ اعتيادي، في ما كان يعرف بالمناطق المحررة سابقاً، والذي بدأت ملامحه تظهر في المناطق الأخرى التي كانت واقعة سابقاً تحت سيطرة النظام المخلوع.

ويلفت الكريم خلال حديث إلى"المدن" إلى وجود حزمة مخالفات متنوّعة في هذه الإجراءات، إحداها تتمثل في التعدّي على مهام وزارة المالية المخوّلة إصدار هذه القرارات، والثانية أنّ تسليم بعض هذه الغرامات يتمّ إما عبر المؤسسة أو أحد البنوك العامة مثل مصرف التسليف الشعبي غير المخوّل أساساً بالتعامل بالدولار.

ونظراً إلى عشوائية هذه القرارات وعدم التزامها النظام العام، فإنّها تؤشّر إلى أن الأساس الاقتصادي والإداري للمرحلة لا يقوم على حوكمة واضحة ومراعاة لمبدأ الشفافية، وهو الأمر الذي يعني تحويل المؤسسات من نظام واضح يمكن قراءته من قبل المواطن والمستثمر على السواء، إلى نشاط شبكي يقوم على مزاجية الفرد لا قرارات المؤسسة، وعلى عوامل القربى والولاء بدلاً من تفعيل الدور المؤسساتي للدولة، وفقاً لما يضيفه الكريم.

ومن جانب آخر، يشير الكريم إلى أثر إيجابي لهذه الإجراءات لجهة رفد الخزانة العامة بالقطع الأجنبي. لكن الجانب السلبي يتغلب على هذه الإيجابية. فسحب الدولار يرفع سعره ويؤثر سلبياً على قيمة الليرة السورية، والطبيعة المزاجية للمخالفات وتسعيرها الفج بالدولار الذي لا يملكه معظم المواطنين يعزز من خسارة ثقة المواطن بالدولة، وهي ثقة مهمة جداً لتنشيط الاقتصاد وتحفيز الفاعلين الاقتصاديين على ضخ الرساميل الكبيرة في مشاريع طويلة الأمد.

الرواتب.. أكبر المعضلات

لا تقتصر الدولرة على تسعير بعض الغرامات والمخالفات؛ بل تأخذ مساحة أوسع بكثير، سواء عبر تسليم كتلة ضخمة من رواتب وزارتي الدفاع والداخلية والإعلام بالدولار، أو عبر اعتماد الدولار كوسيلة تسعير للسلعة وللتحويلات المالية في بعض البنوك، وعلى رأسها "شام كاش" الذي لا تزال الضبابية تكتنف توسعاته الجديدة وحجمه السوقي.

ويرصد يونس الكريم ثلاثة من الرواتب في سوريا في المناطق التي تديرها الحكومة السورية: رواتب الموظفين الحكوميين في دمشق والمحافظات الداخلية وتصرف بالليرة السورية، وهي رواتب منخفضة إذا ما قورنت بالدولار. والرواتب التي تُمنح شمال حلب ذات الإشراف التركي، وهي بالدولار أو الليرة التركية، وتعد متوسطة. أما الكتلة الثالثة فهي رواتب موظفي حكومة الإنقاذ السابقة، وهي الأعلى وهي بالدولار، وتشمل رواتب المقاتلين والأمنيين والإداريين، بمعنى أنها تتضمن رواتب البيروقراطية العسكرية والإدارية الجديدة للعهد الجديد.

وحول تأثير دولرة الكتلة الأخيرة، وهي الأضخم، على الليرة والاقتصاد، يوضح الكريم صعوبة تقييم هذا الأثر لعدم وجود معطيات واضحة تخبرنا عن حجم الرواتب ونطاقات توزعها. لكن على العموم يبدو حجم الدولرة المعلنة كبيراً وقابلاً للاتساع، لا سيما في حال ضُخَّ القطع الأجنبي إلى البلد عبر منح واستثمارات خارجية. وهذا ما سيؤثر سلباً بالطبع على قيمة الليرة، التي يشير خبراء إلى أنها لا تزال تعامل كأيّة سلعة في السوق، وهو ما يجعلها عرضة لرياح العرض والطلب.

محمد كساح- المدن

أقرأ أيضاَ

دبي في الصدارة عالميا.. الأثرياء يفضلونها على نيويورك ولندن

أقرأ أيضاَ

الصادرات الصينية تسجّل أول تراجع منذ عامين