قانون الانتظام المالي: الحكومة أعدّت المائدة ومصارف غَصَّت باللقمة؟ -- Dec 23 , 2025 24
كتب دكتور باتريك مارديني في الجمهورية - استهلَّ رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام مساراً مفصلياً بالإعلان عن إنجاز مسودة مشروع قانون معالجة الانتظام المالي واسترداد الودائع. واتسمت هذه الخطوةٍ بجرأةٍ افتقرت إليها الحكومات السابقة على رغم من إدراك الجميع لضرورتها القصوى. وقد حمل حضور كل من وزير المالية، ووزير الاقتصاد، وحاكم مصرف لبنان، دلالتَين متضافرتَين: الأولى سياسية توحي بوجود توافقٍ بين الرؤساء الثلاثة لتمرير هذا القانون، والثانية اقتصادية تعكس محاولة الجمع بين جهةٍ تسعى لتلبية اشتراطات المجتمع الدولي، وأخرى تحاول حماية هيكلية القطاع المصرفي. بيد أنّ هذا «الإجماع السريالي» لم يصمد طويلاً، إذ سرعان ما استعرّ نصل الإعتراض من قِبل بعض الأطراف.
اقتطاعٍ مخصَّص يستهدف «الأصول غير المنتظمة»
واستندت مسودّة الحكومة إلى ركيزتَين أساسيّتَين: الأولى هي التحوّل من سياسة الاقتطاع الشامل على الودائع إلى اقتطاعٍ مخصَّص، يستهدف ما اصطُلح على تسمِيَته بـ «الأصول غير المنتظمة»؛ والثانية، هي ضمان حقوق المودعين عن طريق استعمال الذهب الذي لطالما كان خطاً أحمر. وفي هذا السياق، يقترح القانون شطب الأصول غير المنتظمة التي تُقدّر قيمتها بنحو 35 مليار دولار.
وقد حاولت الحكومة، أن تُقيم وزناً من العدالة بين المصارف والمودعين، إذ شملت هذه الأصول الفوائدَ المرتفعة التي جناها بعض المودعين من الهندسات المالية، كما استهدفت أرباح المصارف المتضخّمة الناتجة من تلك الهندسات التي جرى توزيعها أرباحاً للمساهمين. وكذلك طالت المسودّةُ العمليات التي تمّت وفق أسعار صرف تفضيلية وبالمكيال عينه، شملت التحويلات الضخمة التي هُرِّبت إلى الخارج بعد العام 2019 واستفاد منها بعض المحظيِّين من أصحاب النفوذ.
100 ألف دولار من قيمة كل وديعة في 4 سنوات
وعقب الانتهاء من عملية «تنقية» الودائع من تلك «الأصول غير المنتظمة»، يقضي المقترح بتقسيط ما يصل إلى 100 ألف دولار من قيمة كل وديعة على مدار 4 سنوات. وتُقدّر هذه الودائع بنحو 20 مليار دولار، يُفترض أن تُسدَّد بالتعاون بين مصرف لبنان والمصارف، على ألّا تتجاوز حصة المصرف المركزي 60% من القيمة الإجمالية. ما يعني مطالبة المصارف بتأمين ما لا يقل عن 8 مليارات دولار خلال 4 سنوات، بينما يقع على عاتق مصرف لبنان تأمين 12 مليار دولار، وهو مبلغ يتماهى إلى حدٍّ كبير مع حجم احتياطاته النقدية الحالية، بشرط أن تعترف الحكومة بدَينها تجاه مصرف لبنان، وتجري مقاصة مع موجوداتها لديه.
أمّا الذهب، الذي ناهزت قيمته اليوم قرابة 38 مليار دولار، فسيُستخدَم كضمانة لسداد الشق الذي يتجاوز الـ 100 ألف دولار من كل وديعة، وذلك عبر تحويل هذه المبالغ إلى سندات دَين على المصرف المركزي مضمونة بالذهب. ومن خلال هذا الإجراء، تكون الحكومة قد أراحت المصارف من التزاماتٍ تعجز عن الوفاء بها، وتكون في الوقت عينه قدّمت ضمانة للمودعين باسترداد مبالغ لا تملك المصارف القدرة على أدائها. وبطبيعة الحال، يفتح هذا التدبير الباب لمخاطر تتعلّق بالإستقرار النقدي والمالي جراء تسييل الذهب، في ظل نظامٍ نقدي لا يزال يرتكز على سياسات استنسابية كانت هي السبب الرئيس في فجوةٍ مالية تبلغ قيمتها ضعف قيمة الذهب نفسه.
دولارات مجلس النقد تضمَن ثبات سعر الصرف
وبناءً على المعطيات المذكورة، فإنّ إجمالي الـ 85 مليار دولار من الودائع ستُطفأ عبر الآليات التالية: شطب 35 مليار دولار من الأصول غير المنتظمة، واستعمال جزء كبير من احتياطي الذهب البالغ 38 مليار دولار لضمان الودائع، و12 مليار دولار من احتياطيات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية، بالإضافة إلى 8 مليارات دولار يتوجّب على المصارف تأمينها. وهنا يبرز اعتراض المصارف بشدّة على مبلغ الـ 8 مليارات دولار المطلوب منها خلال 4 سنوات، معتبرةً إياه عبئاً يفوق طاقتها، كما تعترض على إجراءات الاقتطاع التي تستهدف فائض أرباح المساهمين والتحويلات إلى الخارج.
وعلى رغم من أهمّية معالجة الانتظام المالي واسترداد الودائع، فإنّ الحل الشامل لا يقتصر على إعادة التوازن الدفتري للمصارف، بل يقتضي أيضاً استعادة الثقة بالنظام المالي عبر جذب ودائع جديدة تشكّل الأساس لإعادة إطلاق عجلة النمو. ويمكن تحقيق ذلك من خلال إنشاء مجلس نقد يضمن تغطية كاملة للعملة الوطنية بالاحتياطيات النقدية، فتصبح دولارات التغطية المصدر الحقيقي والوحيد للثقة بالليرة، بدلاً من الإرتهان لمصداقية الحكومة أو مصرف لبنان. ومن شأن مجلس النقد أن يُشجّع اللبنانيِّين الذين كنزوا الدولارات في منازلهم، وكذلك المغتربين والمستثمرين، على تحويل دولاراتهم إلى الليرة وتوظيفها داخل النظام المصرفي للاستفادة من فارق العوائد، ولا سيما أنّ دولارات مجلس النقد تضمَن ثبات سعر الصرف. ويُعيد هذا الإصلاح الجوهري تدفّق السيولة إلى الشرايين المصرفية، ويسمح لها بتعويض ما ستُسدِّده جرّاء هذا القانون.